الانزياح لا يُصْلِح

ثقافة 2021/09/15
...

د. أحمد الزبيدي 
 
 يذكر المفكر الكبير مراد وهبة استغرابه من رسالة تلقاها محمد عبده من (تولستوي) والتي تضمنت نصيحة الأخير لمحمد عبده أن يراسله باللغة الفرنسية لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها _ كما يسوًغ أو يعتذر _ ثم شاءت الصدف أن يذهب وهبة إلى موسكو في ستينيات القرن الماضي فيجد متحفًا خاصا بتراث تولستوي ويعثر على الرسالة التي بعثها محمد عبده له وفيها يعبر عن إعجابه بخطابه الاصلاحي فرد عليه تولستوي بسؤال عن البهائية !! سؤال لا علاقة له بالمرسل والمرسل إليه .. ثم يستمر مراد وهبة في سرده فيخبرنا عن المفاجأة الثانية حين وجد مكتبة خاصة في كندا اسمها (المكتبة البهائية) فدخل وسأل عن موقف تولستوي من تلك الديانة فجاءه المكتبي بكتاب ضخم يتضمن آراءه عنها حينها أدرك وهبة بأن تولستوي لم يكن تقريريا حين سأل عبده، بل كان سؤالا انكاريا واستفزازيا ليعرف موقف رجل دين كبير عن ديانة معارضة لديانته الرسمية .. ماذا نفهم من هذه القصة؟ نفهم أن وهبة لما يكن مؤمنا بخطاب محمد عبده الاصلاحي كون الاصلاح رؤية شمولية وليست انتقائية ومن ثم فإن إعمال العقل في النص الديني يجب أن يكون جريئا وشجاعا وشموليا منتظما.. هكذا يعتقد. 
لو نظرنا في النص الشعري بوصفه نصا لغويا قائما على نظام خاص له قوانينه التي تحكمه وتميزه عن النص النثري أقول: ما دام الشعر لغة منظمة بقانون (الانزياح) حسب كوهين إذن هي تدخل ضمن المنظومة اللغوية التي تقع على عاتقها الدلالي مسؤولية التعبير عن القيم المجتمعية وتجسيد الثقافة العامة والخاصة ضمن رؤية الشاعر وتجربته وأسلوبه وهذا لا يعني الاملاء المسبق إنما أعني عدم قدرة الشعر  الانفلات من امتصاص القيم الروحية والثقافية والجمالية التي تشكل فضاء آنيا يجانس النص . ومن هنا مثلما يذكر محمد عبده والكواكبي وطهطاوي وعثمان أمين وشبلي شميل وطه حسين وعلي الوردي كذلك يذكر الزهاوي والرصافي والجواهري وربما كان الرصافي أكثر الشعراء العراقيين افصاحًا عن موقفه الصلاحي:  
وما الشعر إلّا أن يكون نصيحة        
تنشّط كسلانًا وتُنهض ثاويا  
ولكن أصبح الآن ذكر الرصافي وخطابه الاصلاحي في الشعر كأنه ذكر تأريخ نفتخر به وماض قريب نحن إليه فغابت القصيدة الاصلاحية تحت مبررات مختلفة منها: غياب القصيدة التقريرية والخطابية الحماسية ومنها يعيد السبب للحداثة الهادئة والنثر وميوعة اللغة .... ولكن أعتقد أن الاشكالية تتعلق بالضعف الثقافي وهيمنة الخطاب الديني الذي يأكل على الفكين: السلطوي والمعارض ومن هنا أنّى للانزياح أن يكون اصلاحا؟