الابتعاد عن المناطق المظلمة

ثقافة 2021/09/15
...

 ياسين طه حافظ
 
حين أقول التربية لا أعني ما تحدد من معناها بتسمية وزارة التربية مثلاً. المقصود هنا هو معناها المتكامل تربية أسرية أخلاقية وثقافة مجتمعية وعلاقات موروثة مع البيئة والناس ومستجدات تجارب ومفاهيم حياة. وفي موضوع مثل هذا نبدأ من كوننا «أفرادا» ضمن جماعة أما أن نبدأ بكوننا جماعة تضم أفراداً، فنكون قد واجهنا المشكلة الأخلاقية القديمة الجديدة، وتعاملنا مع الإنسان فرداً بصفته مكملاً لا مؤسِّساً.
لمزيد من الايضاح الإنسان في السهوب فرد يواجه مشكلاته أو ظروف عيشه. الذئب في حال كهذه، والدب واليربوع والقندس يواجهون أساسيات المحنة نفسها. لذلك تحرك الفرد من تركيبة الأسرة إلى مجتمع القرية إلى العشيرة ثم إلى الدولة. 
الالتصاق بما يحمي يوفر ملاذاً وعوناً، وهذان من بعد أكدا أهمية وضرورة العيش بسلامة اكثر مع الشعور بالانتماء. هذا الشعور تنامت معانيه بتنامي المجتمعات وتقدمها. وهو هذا أيضاً الخط التربوي المعقد الذي اتبعه الإنسان ليكون في حالهِ الواضحة اليوم.
طبعاً خلال ذلك صار الحكم للسلالات واللغة واسطة التفاهم المشترك، ثم القومية وهذه صنعت منها المنافسات على الخصب، أو على المال (وضمنه  السلاح)، ميولاً فكرية وفلسفات مثلما صنعت منها قوى مسلحة من تجمعات لونية وعرقية حتى أوصلتنا الحاجة إلى سفك دم الملايين على الأرض. ذلك أن تطور الأفكار لم يكن تطوراً سليماً وما كانت الرؤى دائماً واضحة. المصالح الآنية دائماً هي الأوضح.
هكذا عملياً واجهنا صراع الأعراق ومعه تفرعت صراعات  الأديان والمذاهب لنواجه زمن الحضارة صراعات أحزاب سياسية على الأسس القديمة نفسها وإن بدت مختلفة الأسباب. ومفزعاً كان التوحش على الأرض وفي كل البقاع من آخر الشرق إلى آخر الغرب وفي الأمريكيتين: قتل، حرق، اكتساح وإبادات...
المشكلة المرعبة أن بعد ترسخ هذه النزوعات واكتسابها تاريخاً وأنصاراً نظاميين، وبعد أن وجدت لها من الفكر نصيراً مسانداً وتفاسير، اكتسبت «حضارية»، أي أن ثمة فرصة لتتطور.
هدأت المذابح، مذابح الكنيسة ومذابح الأقاليم في أوروبا، وقبلها هدأت نزاعات قومية في الصين واليابان وبعض أفريقيا... هدأت ولا جرأة لنقول: زالت! اسوأ ما قرأت، مع احترامي الفكري لمن كتبه: تفسير يقول هذه كانت بدائل قديمة للخطاب الثوري!، وهي بعض طبيعي من مخاضات التاريخ في تقدمه!.. قد يكون هذا صحيحاً في جانب منه، ولكنه مفزع حقاً. هو انحرافات إنسانية في التاريخ وفي التربية الإنسانية وفي مراحل التطور، مع بدائيتها..
في القرن العشرين، حصل تحولان كبيران أديا بنا لمواجهة تغير كبير في الدلالة والسعة. ذلكم هو عنصرية الدولة، والذي ابتدأ في نهاية القرن التاسع عشر ليستمر، وإن حصلت تغيرات في بنيته، حتى اليوم عنصرية الدولة التي مثلتها النازية صارت هي المكلفة بحماية العرق!، تطور مثل ذاك كان وما يزال خطيراً مدمرا ويهدد كل  المستقبل البشري لأنه حول قوة المجموع أو إلى قوة دمار لمجموع في مكان آخر، قريب أو بعيد. وما كان الدم الذي سفحته البشرية قليلاً وليس مما ينسى. والمشكلة أنها ليست بلا فلسفة، بل لها فلسفتها ومثقفوها وأساتذة التخصص المناصرون لدعواها.
وبالنسبة للأدب والثقافة، وهو موضوعنا، فإن إبداعا سبق وإبداعاً لحق الظاهرة، ليس سهلاً تجاهل قيمتهما، نصوص مهمة مسرحاً وخطابات وقصائد مهدت، ونتجت من بعد. وهذا مؤسف فاجع أن تتحول فلسفة الجريمة الإنسانية إلى مصدر فكري شعري. لكن ذلك حصل وعرفته المكتبات والجامعات. والنازية بدورها أعادت استعمال كل الأساطير الشعبية القروسطية من اجل تشغيل عبقرية الدولة في سياق بياولوجي-أسطوري يقترب من النضال الشعبي. هي تعطيه جذرية وتواصلاً إلى المستقبل. هنا خطورة الثقافة في انحرافها النازي أو ضد الإنسانية كمشاعر متقدمة، هي في وصفها المصطنع الجديد تستمد طاقتها وتستولد أهدافها من خلطة عنصريات وانحيازات قديمة وجديدة، وللعمل على حساب الضمير الإنساني وعلى حساب المساحة الفكرية التي اتسعت منذ منتصف القرن التاسع عشر.
والمسألة اليوم ليست مسألة أحداث تاريخية ولكن خوف منزلقات خطيرة كارثية على الجنس البشري، بل وعلى الأرض كلها!.
فخلاف كل الادعاءات بمخالفة مثل تلك التوجهات، تتضح حصيلة اهتمامات الدول بمناطق نفوذها، توسعاتها وتحالفاتها السرية للعمل المستقبلي بهذا الاتجاه.
ولا أحد ينكر حقيقة أن علم الدولة صار رمزاً لعنصريتها الحديثة المؤسسة على القديم الموروث وعلى تحذير الغير من التقرب لحقولها. وهكذا صرنا نرى اليوم العالم الفرنسي والبريطاني والأميركي. وما فات ذلك الاشتراكيين «الثوريين» الروس لأن يكون لهم «اتحادهم السوفيتي» والذي اضطرهم صراع القوى والنفود لخسارته، أو لحل تشكيلته فلا تجمع مربك بعد.
صحيح الأسباب تختلف لكن النتائج الظاهرة متماثلة. فبسبب انتصار رأس المال على المنظمة السياسية بدأنا نرى تفككاً في العديد من التجمعات لتبدأ مشاركات واتحادات رؤوس المال متجاوزة الإرث القديم المعتمد على اللغة واللون والأعراق، ويمكن أن نرى أمثلة لذلك في المؤسسات الطبية والتجارية، فالعاملون والعاملات من أصول شتى ومن أمكنة مختلفة، يتحدثون بلغة واحدة مشتركة ويرتدون بزات عمل واحدة ويخدمون أهدافاً واحدة مثلما يأخذون أجورهم من صندوق واحد أو نافذة واحدة. هذا تطور من ناحية لأنه ازاح الأسباب القديمة وابتعد عن جذورها ومكوناتها لكن المسألة التي يحتج بها بعض من الفرديين، أنهم خسروا مرجعياتهم والقوى الساندة.
وإذا ما استُغنَي عن أحدهم الآن فهو لا يضمن دائماً الحضور المساند من رفاقه فهم يعملون أفراداً إلا من صلتهم بعملهم. العاطل سيكون وحيداً أو سينضم إلى فريق «منوع» من العاطلين والمنبوذين، وأن خيمة العصر والقيم الجديدة وقوانين العمل تنتمي إلى جبهة رأس المال والهيئات المالكة. مع ذلك مهما تعرضنا إلى متاعب أو سوء ظروف أو سوء أمزجة، نبقى في عصرنا ومفهوماته وطرائق عيشه وعلينا التكيف مع التحولات الحاصلة بابتعاد واضح عما كان. لا يجب أن نعتمد الإرث المفزع بعد ويجب الانتماء إلى روح العصر وأنظمته ولا مجال مهما كبرت عزلتنا الفردية لخسارة ما حققته الحضارة الجديدة. هو تطور العصر وهي ظواهره.