هوية العراقيين في النصب والتماثيل

ثقافة 2021/09/16
...

   طالب عبد العزيز 
  لا يبخسنَّ أحدٌ حقَّ بغداد في كونها واحدة من أعرق وأجمل وأهم العواصم العربية، فهي التي تشكّل مع دمشق والقاهرة ركائز شرقنا العربي، وهي، وإن كان حاضرُها لا يُسرُّ أحداً اليوم، إلا أنَّ تاريخها، كعاصمة للخلافة العباسية، التي امتدت أفقيةً في خرائط الجغرافيين، يحملها بشرف وقوة الى المراتب العليا، في الذاكرة الانسانية، ولعل أهم ما يمنحها المكانة تلك هو عظمة الفن العراقي، قديمه وحديثه، تشكيلاً ونُصُباً وتماثيلَ التي تتزيّنُ بها متاحفها وقاعاتها وبعضُ ساحاتها.
  ولأنَّ المدينة مبتلاة ومنذ عقود بمنقلب حالها في السياسة، فقد تعرضت الكثير من الاعمال الفنية الى التشويه والاهمال والهدم أحياناً، ذلك بسبب الأنظمة الحاكمة، التي ترى في التماثيل هذه، ما لا يعبّر عن تطلعاتها في الحكم، ويتقاطعُ مع وجهة نظرها، أو انها تمثل نظام الحكم السابق، الذي اطاحت به، في متوالية الوجود والازاحة.. وهكذا، صرنا نرى سقوط تماثيل لملوك ورؤساء وشخصيات، وزوال نصبٍ، تمثل مراحل معينة، في ممارسة، بالغة الضرر، لا تمتُّ الى الفن والذوق بشيء، إن لم تكن مدمرة لذاكرة شعبٍ عريقٍ، ميزةُ تاريخِه تعدد وتباين الانظمة، التي حكمته، عبر آلاف السنين، ولم تكن لتضرّه شيئاً، إنما كانت العلامة الفارقة والدالة عليه. 
   تركيبة النظام السياسيِّ في العراق ليست دينية اليوم، هي تستعيرُ من الدين ما يُبقي عليها حسب، لذا، لم تعد المخاوفُ على الفن من المتشددين الدينيين قائمة، وهم منشغلون في ترتيب بيتهم السياسي، بما يديم النعم والمال عليهم، وهمدت ثورة الشبّان المتشددين، الذين أحاطوا بالقماش الاسوّد حورياتِ نصب (السندباد البحري) الذي كان قائماً في ساحة الطيران، بالبصرة، والذين وجدوا القماشَ غيرَ شافٍ لغليلهم فانهالوا، وبالمعاول على أكتاف وأثداء الحوريات، وبالمطارق هشَّموا سيقانهن وأعناقهن، حتى أزيل النُصب الجميل تماماً. ومثل الفعل الغاضب هذا، هناك افعال مماثلة أخرى، تعرضت لها أعمال فنية، في قاعات وجامعات ومؤسساتٍ، وفي مدن وضواحي عراقية كثيرة، هي ضريبة التحولات السياسية والدينية، سيئة الصيت تلك. 
  وفي معالجة منا، للابقاء على المعالم والشواهد في ساحاتنا، نجد أنْ يُصار الى مراعاة طبيعة المجتمع، ذي المزاج المتقلب، والرافض الابدي للأنظمة، والمتطيّر من كل عمل يصله بسلفه، بأهمية التركيز على إنشاء الاعمال الفنية خارج تمثيلها لجهة سياسية، أو دينية بعينها، وأنْ تستمدَّ مادتها من الطبيعة والحضارة الرافدينية، أو من جملة المشتركات التي لا تقبل التخصيص والتجزيء، او عبر أعمال تجريدية، تحاكي الروح العراقية مجتمعةً، فقد وجدنا أنَّ اعمالاً مستلةً من الحضارات السومرية والبابلية والاشورية وغيرها كانت قد سلمت من معاول التشدد، في حين أزيلت بالجرّافات صورَ وتماثيل العديد من ملوك ورؤساء الطوائف والفئات.