الحياة المضاعفة للمعرفة

ثقافة 2021/09/18
...

 قيس عمر
 
عن دار أهوار صدر كتاب (المعرفة الخبيئة) للشاعر رعد فاضل، وهو كتاب حواري في الفكر الأدبي، في هذه الحوارات التي تضمّنها هذا الكتاب سوف أستعير توصيف محمود جنداري (ملامسة النص بلا قفازات) جاعلاً منه منطلقاً للتوصيف الإجرائيّ لفلسفة هذه الحوارات التي تتشكّل بوصفها حواراً معرفياً يتكوّن فوق الحوار الأدبيّ، من ثم سنكون وجهاً لوجه أمام طاقة القراءة، وطاقة الكتابة المتحررتين من كلّ معنى قبْليّ مسبق، فيحدث أن نقرأ الكثير من الحوارات لكنها بعيدة وسائلة ورجراجة وذاتية ومواربة ومبتعدة عن النصّ وكاتبه ومشغلهما الكتابيّ وتخومه. كلّ قراءة تروم تلمّس روح الكتابة والمعرفة عليها أن تخلع قفّازاتها وتتحرّر من كلّ ما من شأنه أن يكون حائلاً بين القارئ والنصّ، من هنا لا بدّ أن تدخل القراءة بوصفها حواراً في فلسفة التلامس المباشر إن لم أقل الإمساك بتلابيب المشغل الكتابيّ وفلسفته، وتحريك تربته ومن ثم عزقها وتشميسها لاكتشاف كائناتها الخبيئة المتوارية، ومن ثم أليست الحوارات المعنيّة بالفكر الأدبيّ التي تروم تحقيق اختراق موضوعيّ هي قراءة غير قبليّة، قراءة مشتبكة مع الكتابة وتحوّلاتها ومرجعيّاتها؟.
 إنّ الحوارات التي أنجزت في هذا الكتاب كانت عملية قراءة وفحص وتثمينٍ تجلّت في طبيعة السياق الثقافيّ المنتِج للسؤال، لا سيّما في الحوارات الثلاثة التي أجراها رعد فاضل مع محمود جنداري ومحمد خضير وياسين النصيّر، والحوارات التي أجريت مع رعد فاضل؛ إذ نجد القراءة متوغّلةً في لحم الكتابة، محدِّدة جوهر اشتغالاتها وآليّاتِ تجلياتها الفنيّة والثقافيّة. مثل هذه الحوارات لا تذهب بالأدب إلى السكون والعزلة والطمأنينة، إنما على العكس من ذلك تماماً؛ تذهب به إلى أماكن قلقة متحركة متموّجة متوثّبة، كونها حوارات تثير إشكاليات كبيرة تتعلّق بطبيعة الأدب والكتابة وفلسفتهما، إذ ثمّة مطاردة عنيفةٌ وزحزحة لكلّ ثبوت ورسوخ، مما يضع القارئ على عتبات فهم عميق للفكر الأدبيّ والنّقدي. 
إنّ الطبيعة التي تنهض عليها هذه المحاورات تؤمن بالكتابة النّدرة، الكتابة الخلّاقة التي تعمل على تحطيم التصوّرات الأدبيّة المقولبة المحتمية بقوّة التاريخ وسلطة الجنس الأدبيّ، كما تحاول الكشف عن كلّ نمذجة تصنيميّة تحاول الحجْر على الكتابة بشروط تاريخيّة وأجناسيّة تستمدّ قوّتها من حضورها الثقافيّ العامّ. هذه الحوارات بعامّة تسعى إلى تقويض كلّ أيدولوجية حتى إذا كانت أيدولوجية أجناسيّة، بمعنى آخر ثمّة رصد دقيق لطبيعة هذه المشاغل الكتابيّة: سرداً، شعراً، نقداً، تنظيراً، فلسفة..، كما هنالك ثمّة تأمل لطبيعتها الفنية المتحوّلة. هذه المشاغل الكتابية مهاجرة دوماً نحو مهاد وتخوم جديدة، تستمدّ فلسفتها الكتابيّة من مرويات الكتابة الكبرى العابرة لكلّ توصيف
وتجنيس. 
هنا في هذا الكتاب نجد رعد فاضل محاوِراً ومحاوَراً يسعى، وهذا ديدنه في كلّ كتبه، بكدّ وصرامة إلى تقويض كلّ قراءة أصوليّة للأدب، يسعى إلى تقويض تاريخيّة (لوغوس الأجناس) كما يعبّر دولوز، ففلسفة رعد في الحوار غالباً ما تلتقي مع رأي بارت من ناحية كون الأدب هو (لغة وليس وسيلة لنقل المضامين والتمثيلات) حسب، بهذا المعنى المضاعف لروحيّة الكتابة يُشترط في الأدب أن يكون متخفِّفاً من كلّ حمولة خارج أدبيّة، وفي الوقت نفسه يكون منطوياً على ما يمكن أن يكون أدبيّاً من ظلال تلك الحمولة. إنّ رعـد فاضل في انجازيّته الحواريّة هنا يذهب إلى قلب الممارسة الحِجاجيّة بمعناها الدقيق، فطبيعة الأسئلة (المحوريّة) لديه تنهض على بنية حجاجيّة تستمدّ قوتها من التّدعيمات الفلسفية والتأمّلات الغاطسة في العمق الكتابيّ.
العقل التنظيريّ/ اغتيال الكثاريّة:
 هذه الحوارات على المستوى الإجرائيّ لا يمكن للعقل الشعريّ وحده أن ينجزها، ذلك أنّ العقل الشعريّ محكوم بمرجعيّات يمكن لي تسميتها (الممكن البلاغيّ)، وهذا يجعل العقل الشعريّ خاضعاً لهيمنات كبرى ونسقيّة، أعني هيمنات البلاغة الشعريّة وارغاماتها التي تتشكّل من معطيات غير برهانيّة، بمعنى آخر إنّ العقل الشعريّ نادراً ما يتاخم العقل البرهانيّ في تكوينه الكتابيّ على المستوى العمقيّ، فثمّة انفصال وتقاطع في الوحدات الصغرى والكبرى خطابيّاً، من هنا فإنّ هذه الحوارات تنطلق من عقل شعريّ وعرفانيّ يتضايف مع عقل برهانيّ تنظيري. إذن نحن أمام عقل يتركّب من مرجعيّات: شعرية، عرفانية، برهانيّة ضاربة في التأمل والتّفلسف، وهذا ما يضفي على هذه الحوارات بعداً تنظيريّاً واضحاً، مانحاً إيّاها مشروعيّة الحركة في المستقبل والاشتغال فيه؛ كونها متعالية على كلّ تحيينٍ زمانيّ.
من هنا فإنّ رعد فاضل المُحاوِر- المحاوَر في هذا المتون الحواريّة المهمّة؛ يواصل ترسيخ نزعته التنظيريّة في تحرير المعرفة الأدبيّة من سلطة (لوغوس الأجناس) ومن هيمنة النصّ المحتمي بسلطة التاريخ الأدبيّ، تحريرِ القراءة والكتابة من موقعيهما الجماليين ومن ثم الدفع بهما نحو أماكن جديدة ومنتجة، هذه الأماكن البكر التي تحتاج كدّاً تنظيرياً قادراً على تشغيل مفهوم الإزاحة والإبدال، إزاحة المتشابه، والجامد المتكلّس وإحلال المختلف النّادر، وقطعاً هذا لن يتحقّق إلّا عبر التنظير واغتيال (الأدب الكثاري) وازاحته نحو متحف التاريخ الأدبيّ، وإحلال (أدب الندرة) محلّه كونه من دون شكّ البديل المنتِج القادر على محاورة
المستقبل.
إنّ هذه الممارسة الحواريّة المضاعِفة لحياة الكتابة التي تتخذ من التضايف العقليّ مجرّاً قرائياً وكتابياً تنهض على مقصديّة مهمّة جداً، ألّا وهي إعادة الاعتبار للحوار بوصفه فنّاً معرفيّاً محضاً، قابلاً ليكون أداة تمسك بالسياقات الكتابية والقرائية الوراثية التي تستمد هيلمانها من تاريخ الأدب، فالحوارات هنا تتآزر لتتحوّل إلى قوّة منتِجة تعمل على التّطويح بالهويّة الشخصيّة لصالح الهويّة الكتابيّة وتدمير كلّ ما هو فوق أدبيّ،  فلا غرابة إذاً أن تكون فلسفة هذه المحاورات مؤمنة باغتيال الذاتيّ الوثائقيّ الثبوتيّ، لصالح اكتشاف الذاتيّ الكتابيّ المتحوّل، وهذا يقع في صلب الاشتغال الحواريّ التنظيريّ بوصفه قراءة قادرة على تحقيق تصدّعات جوهرية في البنى المعماريّة للأيديولوجيا والتاريخ والسياسة.