إنصاتٌ عن بعد.. وقصيدة النثر المقطعيَّة والتفعيلة

ثقافة 2021/09/21
...

  علوان السلمان
 
تعد جماعة مجلة شعر (أنسي الحاج ومحمد الماغوط أدونيس ويوسف الخال المؤسس لها/ 1957).. ببيانه الذي شكل مناخا فكريا وتيارا ابداعيا منظرا لقصيدة النثر عبر مقدمة مجموعته الشعرية (لن..) التي عكس فيه الجانب الرؤيوي لها مع تعدد ابعادها واصواتها واعتماد المناخ الدرامي واللغة اليومية الموحية بألفاظها الحسية وشعرية نصها.. مع بنية مغلقة على مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد، منظم الأجزاء، متوازن، تهيمن عليه ارادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقود توجهها..) على حد تعبير عبد العزيز موافي في كتابه (قصيدة النثر من التأسيس الى المرجعية..).
  إنها نص يمتاز بقصره وتركيزه مع تجاوز القوالب الجاهزة وغناها بالصور الشعرية المكثفة العبارة المتوهجة الالفاظ الموحية ذات الايقاع المنبعث من بين ثنايا الفاظها وجملها.. ويعد بودلير اول من أخرجها كمصطلح من دائرة النثر الشعري الى دائرة النص الشعري الكتلي.. المؤطر بوحدة موضوعية.
  وبتفكيك وتحليل المجموعة الشعرية (إنصات عن بعد لما فات من العزف) أسلوبيا وتركيبيا.. مبنى ومعنى، والتي نسجت عوالمها النصية التي غلب على امتدادات جسدها النص النثري الكتلي.. أنامل الشاعر والناقد ريسان الخزعلي واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في ميسان في نشرها وانتشارها. كونها نصوصا تعتمد المقطعية الكتلية الكاشفة عن لوحات تعبيرية تكشف عن استحضار منتجها التقنية السيمية، المونتاجية.. وتوظفها أسلوبا جماليا في بنيتها المؤطرة بوحدة موضوعية.. والقائمة على سردية شعرية، ابتداءً من العنوان العلامة السيميائية والمكون النصي الذي يشكل سلطة النص لأنه عتبة senil تتمتع بخصائص تعبيرية وجمالية كالايجاز والاختزال وكثافة الدلالة..
ما كان يكفي.. أن تقول بدايتي
كانت على الجسر القديم علامة
الماء تحت الجسر غادر لونه
ونمت طحالب لم يكن يوما لها شكل ولا جذر وأنت درايتي
في الحب او في الموت قبل ولادتي.. معنى وتكوينا وكنت المشتهي
ورضيت اسمك في الهوى لا ينمحي
حتى عكست الأبجدية استحي
أن تكشف الممحاة سرة أحرفي...
هل لي أجس اليوم نبض أصابعي...؟
أم أكتفي وأعلل طيفا مضى..
كانت على جسر قديم رايتي.../ ص17
  فالشاعر يرتكز على جمالية السياق المستمد من خلجات النفس السابحة في فضاء المخيلة الممزوج بالواقع، باعتماد السرد الشعري المهيمن الأسلوبي الذي يحيل الى حوارية منولوجية مركبة تنحصر في (الأنا) المحاورة لنفسها، لتقدم مشهدا صوريا يستدعي المتلقي لاستنطاق عوالمه والكشف عما خلف ألفاظه.. بتعبير يمازج ما بين الوجداني والحسي لخلق لوحة مشهدية مكتظة بالخيال الخصب الخالق للنص الشعري المنسوج من ألفاظ متشظية على أوتار أنامله الغارقة في الشعرية المعبرة عن ذات مسكونة بمناجاة الآخر.
لم يكن (يوسف).. في جب
ولا كان الغريق
كان من عمق يرى غرقى الطريق
لم يقد يوما قميصه
إنما آثار نار الجد (ابراهيم).. في ظهر الفتى
كانت الميراث واستهوى..
(زليخا) اللعب في مسك الطريق/ ص37
   فالشاعر يستثمر التناص القرآني الذي هو (ازدواج الفكرة) على حد تعبير صلاح فضل.. لإثراء نصه الشعري على الصعيد البلاغي والدلالي والحدثي.. إذ إنه يستلهم الألفاظ القرآنية (يوسف/ ابراهيم/ زليخا..) متناصا معها لتجسيد صوره الشعرية التي هي تشكيل فني متساوق في وظائفه النفسية والدلالية والجمالية، فضلا عن منحها بعدا دلاليا كاشفا عن الواقع الاجتماعي.. كون الصورة تعد اساس الخلق الشعري.. فضلا عن ذكر شخصيات شعرية وفنية وأسطورية كـ (الحلاج/ السياب/ اورفيوس/ رامبو..)، وهذا يعني تجاوز الحدود وخلق نص مفتوح بتقاطعاته الزمكانية.
وما سيس النخل يوما
وهل سيس النخل يوما؟
نعم سيس النخل مرة واحدة حين جئن
صبيات الهور صبيحة عيد ينثرن
كذلاتهن مع السعف مهفهفات.. مصفقات
(سيس يا نخل جنك بنات العيد)
فما لحقت بنخلة
ولا مسست شعر من كانت تعلمني.../ ص89
الشاعر يقدم مشهدا صوريا يستدعي المتلقي لاستنطاق عوالمه والكشف عما خلف صوره، فضلا عن اعتماده تقنيات فنية وأسلوبية كالتنقيط (النص الصامت)، الذي يستدعي المستهلك لملأ فراغاته، وتوظيف الأهزوجة الشعبية التي تكمن أهميتها في تعبيرها عن الواقع الاجتماعي، والتكرار الاسلوب اللغوي الدال على التوكيد من جهة ومن جهة أخرى انه قيمة جمالية تؤطر النص بعوالمه.. كونه يكشف عن الجوانب النفسية والدلالية التي تنطوي عليها شخصية الشاعر في تشكيل رؤيتها، فضلا عن اضفائه تنغيما مموسقا على جسد النص.. ولا يفوتنا أن نذكر تأثره بمن سبقه في بناء نصه على شكل هندسي كسعدي يوسف وصادق الصائغ وجبار الكواز وصادق الطريحي.. فوظف الأسلوب البصري الهندسي في نصوصه لرفدها بشحنات دلالية وفقا لرؤاه وأفكاره.. إذ بناء نصه على شكل مثلث قائم الزاوية بحيث ينطلق من لفظة تشكل الرأس تأخذ بالتنامي والتوليد حتى تصل أقصاه مشكلة القاعدة.
من كل هذا نستطيع القول إن الشاعر قدم نصوصا خارجة عن المألوف شكلت هويتها بوابة الخروج من منطق الفكرة الى منطق البناء والتصوير الذي تتداخل فيه الرموز والتناصات والأسطورة والاساليب من اجل اختزال التجارب وإخراجها على صوتها النابض بالحياة.