بين زفايغ وفرويد

ثقافة 2021/09/21
...

لؤي حمزة عباس

يعدُّ أدب الرسائل من بين الأنواع الأدبية التي حافظت على أهميتها على امتداد عصور طويلة، لما يكشفه من جوانب في نفوس المتراسلين وشخصياتهم وثقافاتهم وإضاءة اهتماماتهم المختلفة، وعلى الرغم من هيمنة وسائل الاتصال الرقمية على عالمنا اليوم، وتغييرها سبل التواصل وأساليب التخاطب بين البشر بما أحدثته من تغيرات أساسية على عاملي الزمان والمكان، فقد حافظت رسائل ما قبل عصر وسائل الاتصال الرقمية على أهميتها، فهي مازالت تمدّ الدارسين والقراء بالكثير من المعلومات التي وجهت وعي كتابها واستحوذت على اهتماماتهم، فضلاً عن قدرتها على إضاءة أخلاقيات الحوار والوقوف على متغيراتها بين عصر وآخر.
وتكتسب المراسلات أهميتها بناء على أهمية المتراسلين وإسهام كلٍّ منهما في مجالات تخصصهما، أدبية أو علمية أو فنية أو سواها، وذلك ما تكشفه الرسائل المتبادلة بين (ستيفان زفايغ) و(سيغموند فرويد)، الصادرة عن منشورات الهجان في البصرة بترجمة ناظم بن إبراهيم، التي تبادلاها منذ بواكير القرن العشرين واستمرت أكثر من ثلاثة عقود بين 1908 - 1931، بما حملته هذه العقود من انعطافات تاريخية وأحداث جسام لم تترك ظلالها على حياتي كلٍّ منهما بل على مستجدات الحياة الانسانية عامة، لا سيما نشوب الحرب العالمية الأولى وصعود النازية، وقد انتهت تأثيرات الحقبة عليهما بهجرة فرويد إلى لندن في العام 1938 وانتحار زفايغ في العام 1942 يائساً من وضع أوروبا الذي دمرته الحرب.
تكشف الرسائل طبيعة العلاقة التي جمعت بينهما على اختلاف اهتماميهما بين الأدب والعلم، بل إن هذا الاختلاف مثّل عامل صلة حرص كلٌّ منهما على استمرارها والإفادة منها، ففي 19 أكتوبر 1920 أرسل فرويد رسالة جوابية لزفايغ تتضمن امتنانه على إهداء زفايغ مؤلفه بصدد بلزاك وديكنز ودستوفسكي له، والإشادة بما تضمنه من أفكار يصرّح فرويد بإفادته منها، "إذا سمحت لي بأن أقيّم عملك بالصرامة الممكنة سأقول إنك أتيت على كلِّ ما يتعلّق ببلزاك وديكنز وفصلّت فيه تفصيلا"، وبصرف النظر عما يكتنف الرسائل عادةً من مجاملة، يلاحظ عمق حوارهما بصدد دستوفسكي وما لازمه من مرض ترك أثره على أدبه وعلى نظرته للإنسان عامة، والتفكير بطبيعة الصلة بين أدب دستوفسكي وتجاربه الذاتية والموضوعية، ودور الحوار في تطوير الوعي الأدبي عند زفايغ والعلمي عند فرويد، إنها المعرفة وما تقترح من سبل تواصل تكشفها الرسائل وهي تُستقبل من كلٍ منهما "بابتهاج معرفي حقيقي" حسب جملة فرويد، فكلُّ رسالة منها تتضمن الكثير من الكشوفات عن موضوعاتها مثلما تتضمن الكثير مما يُعد اضافة في معرفة علمين إنسانيين كبيرين.