{يوليانا}.. سيرة الوجع العراقيّ والبحث عن الفردوس

ثقافة 2021/09/21
...

 د.عباس آل مسافر
يشكل الإهداء إحدى العتبات النصيّة التي تمّ الاهتمام بها مؤخرا من قبل النقاد والباحثين، لاسيما جيرار جينيت في كتابه {العتبات} وهو مدخل له أهمية بعد العنوان الرئيس.  وفي روايته يوليانا ـ طبعة هاشيت انطوان، يثبت الروائي نزار عبد الستار اهداء خاصاً للمسيحيين الذين خرجوا من العراق فيقول فيه: {إلى الذين حملوا الصليب وخرجوا من العراق في 19 تموز 2014}. 
 
ليكون هذا الإهداء بمثابة ناقوس خطر لإفراغ البلاد من مكوناتها الأصيلة والأساسية في عمل أدبيّ يجسد مأساة المسيحيين في بلاد أنهكتها الحروب والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة، فعنوانها يشير إلى قديسة مؤمنة برسالة وتعاليم (السِّيد المسيح) وهي في الأصل خادمة القديسة (بربارة) عاشت في أوائل القرن الثالث في عهد الملك (مكسيمانوس) الذي تولى الملك سنة 236، وكانت بربارة تتلقى أرفع العلوم، محبة للتأمل.
ونالت شهرة فائقة في الشرق والغرب وقد مالت إلى المسيحية، بعد تحطيمها أصنام القصر. 
فقرّر الملك أن يمنع عنها الطعام جزاءً لها، فلم يتركها {يسوع} فبعث لها بعصفور ليعطيها قمحاً من النافذة لتأكل وتتغلب على الجوع، وقد حدث لها عدد من الكرامات.  
يختار عبد الستار أيقونات وشواهد مسيحيّة لتعطي دفعةً معنويّةً للأمل بغدٍ أفضل، من خلال رجوعه إلى التراث المسيحيّ واستلهام شخصيّات حيّة مقدسة، استطاعت رفض الظلم ونبذ التعصب ونشر الفضيلة بين العالم، فكان ظهور هذه الشخصيّة (القدّيسة يوليانا) هي الفكرة التي ارتكزت عليها هذه الرواية؛ إذ كان ظهورها لأبطال الرواية المهمشين والبسطاء المنتظرين للوعد الإلهيّ مشابهاً جداً لظهور (البطل المخلص السماويّ) لأتباعه المؤمنين به وتحديداً (السِّيد المسيح)، فهناك تقارب جداً بين مواقفهما من الناس الذين انزلقوا في الخطيئة، لكن قلوبهم ماتزال عامرة بالحب للربّ وللآخرين، على العكس تماماً من مظاهر التدين الزائفة، التي تغلّف شخصيّات دينيّة مبجّلة، ولها شأن، ووجاهة داخل المجتمع؛ إذ جعل الروائي أكثر الناس عطفاً على (جَجّو وابنه حنا) الشماسين المعاقين، هما شخصيتا (بتول بقلاوة) ذات السمعة السيئة وربيبتها (ياسمين) التي كان جزاؤها لما فعلته من أجل (حنّا) أن استقرت هذه (القدّيسة) في بيتها المتواضع، وتركت الكنيسة وقصور الرهبان الفخمة ومنازل وجهاء قرية كرمليس الحديثة، وهذا انعكاس لفكرة {أنّ الخطيئة لا تجد طريقها إلى قلب يعشق الله} إذ سمَحَ لـ (مريم المجدليّة) مرافقته في جولاته للوعظ والإرشاد، وهي أول شخص يظهر له بعد القيامة؛ فيتحدث الإصحاح (1ـــ 35) من (سِفر إشعياء) عن النبوءات المبشرة بالخلاص والتوبة عن الخطائين، ويد الربّ الممدودة لجميع البشريّة من دون استثناء، لذلك نجد الروائي يستعيد شخصيّة هذه المرأة ودورها في دعوة (المخلص المسيحيّ)، وتوظيفها لشخصيّة (ياسمين) التي لم تكن بالنسبة لحنا بمثابة (مريم المجدلية) فقط؛ ‬بل هي ملاكه الحارس،‮ ‬والبركة الشافية التي أبرأته من عاهاته،‮ حتى أصبح يمشي معتدلا،‮ ‬بعد أن كان معاقاً ذهنيّاً وبدنيّاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
  وقد يسعى الروائي إقناع القارئ بتقنية توظيف المقدس في زمن لا يسمح بظهور المعاجز، بعد أن حل العلم والتكنولوجيا محلها، وكأنه ـ الروائي ـ قد هيأ القاعدة التي ستؤمن بهذه (الموعودة المنتَظَرة) عن طريق زجّها في البيئة المناسبة، لكي تستوعب الأفكار التي تطرحها، فلم يكن هناك خيار أمام الروائي غير اختيار الواقع الدينيّ؛ إذ يمثل خزيناً ثقافيّاً يستمد منه رؤاه الفنيّة التي تضمنتها الرواية، تجاه الأحداث التي مرّت بها تلك القرية بوصفها رمزاً للأقليّات الدينيّة المقهورة في 
العراق. 
ويمدّنا حوار الشخصيّات مع بعضها البعض بالمادة الأوليّة للنص الروائي الذي ارتكز على إضاءة الجوانب الميتة من التاريخ، ومحاولة بعثها من جديد بثوب آخر، فنجد حتى أكثر الشخصيّات بعداً عن الإيمان، تكرّر فكرة العناية الإلهيّة بتلك القرية وسكانها، فيعد وجود (ججّو) وابنه سبباً مباشراً في زيادة البركة عليهم، ويستدل على ذلك باختيار (القدّيسة يوليانا) قريتهم من دون الأمكنة المسيحيّة الأخرى لتظهر للمؤمنين بها وتبقى فيها إلى الأبد، فينصح (إبلحد) صهره الجديد (ججّو) مشجعاً له على هذه الخطوة، فيقول له:
{بعدها بيومين جاءت امرأة إلى كنيسة مار أدي، وأدلت بشهادة أنها أصيبت بحروق في يدها وهي تخبز، وأنها سمعت من الناس أنَّ القديسة يوليانا ظهرت في بيت امرأة تسكن في شارع الدوّاسة بالموصل اسمها ياسمين، وقد زارت هذا البيت وتبرَّكت به، وفي الليل جاءتها القديسة يوليانا في المنام، وقالت لها أطعمي بيوتا تشفَ يدك، ففعلت هذا، فأصبحت وقد اختفت آثار 
الحروق. 
وفي اليوم التالي لتسجيل الشهادة نظمت أراسيا حملة سمتها (نخبز للجنود) وأرسلت لمعسكر الغزلاني في الموصل شاحنة محملة بالخبز المغلف بأكياس طبعت عليها صورة القديسة يوليانا كما ظهرت في الجداريّة‮}‬‬‬‬‬‬‬‬، وهذا ما أزعج بعض الزعماء الدينيين، وأقلقهم من أن تخطف هذه القديسة الأضواء، وتحول الأنظار إليها بشكل غير مسبوق، وتهدم مشاريعهم المستقبليّة في البلاد، ومنها الحملة الإيمانيّة التي دعا إليها النظام المباد، فلذلك سارعوا إلى قطع الطريق عليها فعلى هامش قداس الأحد في كنيسة مار أدي اجتمع الخوري سالم قهوجي مع أربعة من كبار المزارعين في كرمليس، وطلب منهم إبعاد طموحاتهم عن واجبات الكنيسة، وعدم الخلط بين يسوع وأيّ رمز دنيويٍّ آخر. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬