الانتخابات العراقيَّة.. من الدائرة الوطنيَّة إلى الدوائر المناطقيَّة
منصة
2021/09/25
+A
-A
د.عبد الخالق حسن
يوماً بعد آخر نقترب أكثر فأكثر من موعد الاستحقاق الانتخابي في العاشر من تشرين الأول من هذا العام2021. ولا نغالي أو نبالغ إذا ما قلنا إن هذه الانتخابات ستكون الانتخابات الأهم والأخطر منذ التغيير في 2003. الاستحقاقات التي تترتب على هذه الانتخابات كبيرة جداً. وكذلك تحاول الحكومة عبر عمليات كثيرة ضبط الأمن الانتخابي، سواء من حيث التأثير المباشر من خلال تغيير قناعات الناخبين وتهديدهم والضغط عليهم، أو من خلال التأثير الفني من خلال القيام بعمليات تزوير ممنهجة تطعن بقيمة الانتخابات. لهذا عمدت الحكومة أولا إلى التعاقد مع شركة كورية من أجل التحقق الالكتروني من سير الانتخابات، وكذلك من اجل تسريع إعلان نتائج الانتخابات، التي كانت تتأخر داخل دوائر المفوضية، حتى أن الكثير من الكتل والأحزاب كانت تطعن بالنتائج بذريعة إمكانية التلاعب بالنتائج التي كانت تعلن شيئاً فشيئاً.
الأمر الاخر أو المتغير المهم الذي دخل الى هو تبني مجلس الامن ومنظمات الأمم المتحدة لموضوع متابعة سير العملية الانتخابية. فبعد شكاوى ومطالبات من عدم وجود تكافؤ في الفرص أو الخوف من التأثير في نتائج الانتخابات، وأغلب هذه الشكاوى تقدمت بها تيارات وأحزاب تنتمي الى ما افرزته احتجاجات تشرين، وافقت الأمم المتحدة على نشر مراقبين من جنسيات مختلفة على امتداد المناطق التي ستشهد الانتخابات، وكل هذا يقع في إطار تطمين الأحزاب الجديدة ومنحها الثقة في حضور أممي سيراقب ويؤشر على الخروق من خلال تقارير المراقبين. وربما وصلت هذه التقارير لتكون على طاولة مجلس الامن. ولا نعلم ما الذي سيحدث إن كانت هذه التقارير ليست في صالح العملية الانتخابية ونزاهتها. ومع كل هذه التطمينات انسحبت تيارات تشرينية كثيرة وأعلنت معارضتها للعملية السياسية، وكذلك علق الحزب الشيوعي مشاركته بناء على معطياته التي تقول بعدم ضمان نزاهة الانتخابات. لكن برغم كل هذه المبررات، يرى الكثير من المراقبين أو التابعين للأحزاب التي ستشارك في الانتخابات، أن الامر كله يعود الى ادراك المنسحبين والمشككين بانعدام حظوظهم الانتخابية وعدم وجود مؤشرات على تحقيقهم نتائج طيبة، لهذا أرادوا أن لايصدموا داعميهم او المؤمنين بأفكارهم إذا ما جاءت النتائج بعكس أمنياتهم. والسبب هنا يعود الى قانون الانتخابات الجديد الذي أقره مجلس النواب والذي اختلف بشكل جذري عن القوانين السابقة.
الدائرة الواحدة والقائمة المفتوحة
بعد سقوط النظام السابق واتجاه العراق نحو بناء أنظمة مؤسساتية على انقاض الدولة المنهارة، أصدر الحاكم المدني بول بريمر أمرا يتعلق بتنظيم العملية الانتخابية التي ستقرر شكل العراق. وكان من ضمن ما أصدره قانون الانتخابات الذي تقرر فيه ان يكون العراق كله دائرة انتخابية واحدة، مع تقرير وضع خاص لمحافظة كركوك، التي كانت وما زالت محل تنازع واختلاف قومي وعرقي. من ضمن النقاشات التي خاضها ممثلو الأحزاب ان يكون الانتخاب وفقا لنظام القائمة المغلقة. لكن المرجعية الدينية وقتها رفضت هذا المنطق ورأت أن الأفضل والاصلح للناس ان يتم الذهاب الى نظام القائمة المفتوحة، حتى يختار الناخبون ممثليهم بشكل مباشر من دون ضياع أصواتهم أو ذهابها الى اشخاص لم يختاروهم، لان نظام القائمة المغلقة كان يعتمد التصويت للقائمة، وبعدها يتم تقسيم أصوات الناخبين حسب التسلسل الذي رتبت به القائمة أعضاءها. كانت مبررات الكتل السياسية بخصوص هذا القانون تتعلق بالوضع الأمني وخطورته وصعوبة تحرك المرشحين على امتداد مناطقهم التمثيلية. فضلا عن ذلك فإن الكتل السياسية راهنت هنا على أن الوعي الانتخابي للناس ما زال يتحرك في منطقة عاطفية ما زالت مشحونة بذكريات قاسية تتعلق بسنوات الدكتاتورية. وكذلك كان الخطاب القومي والطائفي والعرقي في بداية صعوده، حتى أننا كنا نعيش في حالة تخندق عميقة، ساعدها في الاستمرار احداث عنف وقتل طائفي جعلت الجميع يضع إصبعا في محبرة الانتخابات، ويضع إصبعا أخرى على زناد بندقيته. لهذا كان من الطبيعي أن يكون التفكير السائد وقتها ان النظام الانتخابي هو ممثل للهواجس والمخاوف التي كانت تحرك السياقات السياسية والاجتماعية. لكن المساوئ الكثيرة التي انطوى عليها هذا القانون سمحت بوصول اشخاص لم يكونوا مؤثرين في المستوى السياسي او التشريعي، وكان وصولهم الى كرسي التمثيل النيابي هو اعتمادهم فقط على الولاء والانتماء للطائفة والقومية والعرق. ومن اجل ضمان حصول الجميع على التمثيل في العملية السياسية ودخول دائرة التاثير في البرلمان، كان القانون يتضمن حق الأقليات التي كان يخشى من عدم حضورها من خلال مقاعد خاصة بهم يتنافسون عليها وفقا لنظام الكوتا. وهذا الامر سرى أيضا على تمثيل النساء التي اشترط القانون ان تكون تقسيمات القوائم، متضمنة للنساء وفق عملية حسابية تجعل كل ثلاثة رجال مختومين بامرأة.
}سانت ليغو} المعدّل
اعتمد مجلس النواب في 2013 نظاما لاحتساب الأصوات عرفه الناس باسم {سانت ليغو المعدل}. وهو نظام احتساب للاصوات لم يكن جديدا، بل إن الكثير من الدول استعملته منذ مطلع القرن العشرين، وحتى قبل القرن العشرين بسنوات قليلة. واجه القانون في بداية تشريعه سلسلة انتقادات من أحزاب وتيارات ومنظمات مجتمع مدني كانت ترى فيه تكريسا لسيطرة الأحزاب الكبرى، وإبقاء الطابع المناطقي والعشائري والقومي هو المتحكم بخيارات الناخبين. فضلا عن ذلك فإن المعترضين سجلوا نقطة سلبية مهمة على القانون تتمثل في أنه قد يسمح للخاسرين بالوصول الى البرلمان، اعتمادا على مبدأ المقاعد التعويضية، ما يعني تكريسا لفكرة دعم الخاسرين الذي ربما يدخلون الانتخابات لدوافع نفعية بعيدة عن الدوافع التي من اجلها تنتخب الناس ممثليها، يتمثل هذا بشخصيات ذات رؤوس أموال كبيرة تريد المحافظة على وضعها المالي وزيادة رصيدها منه، من خلال الوصول الى مقعد التمثيل النيابي الذي يفتح الباب امام الصفقات التجارية الضخمة. لكن مع هذا، لم يكن القانون يسير في الجانب السلبي فقط، بل إن هناك بعض الإيجابيات التي سجلها المختصون في الشأن الانتخابي تمثلت في كون هذا القانون، يجعل المشاركة في الانتخابات محصورة بين الكتل والأحزاب والتيارات المتنافسة، بما لا يسمح بتشتت الأصوات وضياعها، فضلا عن عدم وصول قوائم صغيرة ربما يكون بعضها فرديا، وهذا يعني انها ستعمل على ابتزاز الكتل الكبيرة من أجل أن تمنحها الأصوات اثناء تشريع القوانين بما يجعل الصوت البرلماني مشروعا انتهازيا وليس تمثيليا، وهذا حتما سيفقد العملية الديمقراطية قيمتها حين تصير هذه العملية محطة لعقد الصفقات التجارية. فضلا عن ذلك، فان هذه الفكرة، أي فكرة حصر المشاركة في الانتخابات بالاحزاب المتنافسة، مطبقة في الكثير من الدول المتقدمة، ومنها ألمانيا التي تراعي قضية عدم تبعثر الاتجاهات التشريعية في نظامها الفيدرالي، حين انحازت لنظام {سانت ليغو} الذي يدفع الى حسم موضوع التشريعات وعدم خضوعه الى مساومات او رفض من جماعات ممثلة بشكل فردي او صغير. كذلك يدافع انصار هذا القانون عن اشتراط حضور المرأة فيه، الذي أثبته القانون من خلال تعويض غيابها بحصولها على مقاعد تعويضية من ناتج قسمة الأصوات حتى مع عدم تمكنها من الوصل الى عتبة الأصوات اللازمة. لكن مع هذا ظل القانون خاضعا للجدل بحجة غياب العدالة فيه وعدم السماح للأحزاب الصغيرة او الأشخاص المستقلين من الوصول الى البرلمان والتنافس على مقاعده التمثيلية، بما يجعل القانون بعيدا عن مبدأ تكافؤ الفرص، لهذا كان مطلب تغييره مستمرا منذ تشريعه، لكن لم يكن هناك ضغط يسمح بهذا التغيير حتى تشرين 2019 حين اجتاحت التظاهرات مناطق العاصمة والوسط والجنوب، وكان تغيير هذا القانون هو احد المطالب التي نادت بها ساحات الاحتجاج، وهو ما تحقق لاحقا من خلال تصويت مجلس النواب على الغاء هذا القانون والذهاب الى قانون الدوائر المتعددة.
83 دائرة
أفرزت احتجاجات تشرين انقلابا شاملا في الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية. وكان من نتائج هذه الاحتجاجات هي المطالبة بتغيير الطريقة التي تدار بها العملية السياسية، التي كان المحتجون يرون أنها لم تعد تصلح لإدارة البلد. والطريقة المثلى للذهاب بعيدا عن الطرق التي كانت تسير فيها العملية السياسية، تبدأ من تشريع قانون انتخابي يضمن للجميع حق التنافس، ويعطي للناخبين فرصة اختيار ممثليهم بعيدا عن ضغط الأحزاب التقليدية واحتكارها للحياة السياسية. النقطة الأساسية التي اعتمدها هذا القانون هو تقسيم العراق الى 83 دائرة انتخابية، وهو عدد مقاعد النساء نفسه في مجلس النواب، الذي يلزم القانون بحصولهن على ربع عدد المقاعد البالغ 329 مقعدا. اعترض الكثير من انصار تعديل القانون على أن هذه الطريقة في التقسيم لن تسمح أيضا بحصول تكافؤ في التصويت، لأنهم أرادوا أن تكون كل وحدة إدارية دائرة انتخابية مستقلة. لكن الرد عليهم جاء من الذين شرعوا القانون حين أكدوا أولا صعوبة اعتماد الوحدات كدوائر انتخابية لوجود مناطق متنازع عليها، فضلا عن تغير بعض الحدود الإدارية بعد 2003، وكذلك عدم وجود إحصاء سكاني، مضافا الى ذلك ان هذا سيغبن بعض المدن الكبيرة، التي ستتساوى مع المدن الأقل منها مساحة وسكانا. والأهم في كل هذا ان عملية احتساب الأصوات اعتمادا على عدد مقاعد النساء سيجعل الامر اكثر سهولةً. وفي اثر هذا رأى الكثير من الأحزاب والتيارات الجديدة والقديمة أن جوهر مطالباتهم بتعديل النظام السياسي، قد غاب بعد التصويت على هذا القانون، وان الفرص في الوصول الى البرلمان ستكون للجماعات الأكثر تنظيما، أي الأحزاب التقليدية، لهذا أعلنوا المقاطعة والانسحاب من المنافسة واكتفوا بمبدأ المعارضة حسب قولهم.
لكن برغم كل ما قيل ويقال عن أهمية تغيير السلوك الانتخابي اعتمادا على قانون انتخابي جديد، أرى ان هذا القانون الانتخابي سيعزز العشائرية والفئوية والطائفية والعرقية على حساب الوطنية. لأن برامج المرشحين وخطاباتهم ستتوجه الى مخاطبة الناخبين بعنواناتهم المحلية وليست الوطنية، وهم طبعا معذورون هنا، لأن طبيعة القانون الانتخابي تستدعي منهم هذا الخطاب. وكذلك فان هذا القانون سيكون مضراً بالهوية الوطنية مستقبلا، رغم النوايا الطيبة للمدافعين عنه في كونه يمنح العدالة للجميع. لكن ما الذي يمكن أن تقدمه مجموعة نواب مستقلة امام أحزاب وكتل اكثر خبرةً وتنظيما منها؟ وهذا يعني أن هذا القانون يمثل ربيع المحاصصة وصعود خطاب المكوناتية والمناطقية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، التي تجعل من الناخبين يختارون شخصا لكفاءته، بعيدا عن أي اتجاه فئوي او مناطقي او عرقي. إننا هنا إذاً، أمام إشكالية بين رغبات قد تنزع نزوعاً عاطفياً، وبين رؤية تبدو واقعية رغم شحوب بعض ملامحها. نحن اليوم نحتاج إلى تعزيز الهوية الوطنية أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما لا يمنحه قانون الانتخابات الجديد حتى مع رفضه من قبل المطالبين به. ربما كسب هؤلاء المطالبون شيئا من اثبات الذات، حين جعلوا الاحزاب تعيد النظر بقانون الانتخابات. لكن ما حصلوا عليه هو شيء وقتي. وهذا يعني أن داعمي هذا القانون الذين أصروا عليه أو الذين طالبوا بغيره من أحزاب تشرين فازوا بقطف الثمرة، لكنهم خسروا الشجرة.