حوارات غير مكتملة

ثقافة 2021/09/26
...

  كامل عويد العامري
 
قبل وفاته بفترة وجيزة، حرص الشاعر والمترجم إيف بونفوا (1923 - 2016) على الاستعداد لرحيله. كان ضعيفًا، لكنه كان واضحًا، ودع أولا المقربين منه. ويمكننا قراءة هذه الرسالة الإلكترونية المزعجة المؤرخة في 16 حزيران (يونيو) 2016 التي أملاها على ابنته ماتيلد (التي أعدت هذا الكتاب) والموجهة إلى صديقه ميشيل بوتور في المجلد الأول من مراسلاته (المراسلات، 2018):»لقد اعطوني للتو عنوان بريدك الإلكتروني. لِمَ كنت أبحث عنه؟ لأقول لك وداعا. ليس لدي سوى أيام معدودة. لم أكن أرغب مغادرة هذا العالم من دون أن أخبرك عن صداقتي القديمة. أقبلك. إيف».
في الوقت نفسه، كان بونفوا يعمل على كتاب نهائي صمم له جدول المحتويات واختار العنوان بنفسه، «غير المكتمل». في جميع أعماله، سواء كانت قصائد أو دراسات ومقالات، كان بونفوا يخاطب الآخر. ولأنه ينظر إلى الشعر على أنه «مصافحة»، على حد تعبير سيلان، كان الحوار عنده جنسا أدبيا له هيبته. والكتابة، مع محاوريه مناسبة لإجراء بحث مشترك، في هذا الكتاب الجديد، الذي يأتي بعد كتابين هما:(حوارات حول الشعر (1972-1990) و (الحوارات غير المكتملة، حول الشعر (1990-2010)، يضم ثلاثة عشر مقابلة أجريت بين عامي 2003 و2016، بعضها لم يكن مكتملا. فتداخلت تواريخ النصوص المختارة مع الفترة التي يغطيها الكتاب الأخير وحتى عام 2016، عام وفاة الكاتب.
وويضم أيضا مقالا واحدا بعنوان، (الشعر كصورة)، من خلال عدسة التجربة الشعرية وفهمه لها، إذ يفكر بونفوا في الجوانب الرئيسة للوجود البشري: الموسيقى أو الذاكرة أو الشخصيات الأبوية أو الرياضيات أو الرغبة في الوحدة أو الحوار أو المكان أو الرسم أو استخدام الكلمات. كما يستحضر، فترات معينة من حياته وابداعه: وخاصة العزلة التي عاشها في طفولته أو مراحل علاقته بالموسيقى والموسيقيين.
لقد تعامل بونفوا مع مواضيع تعكس طبيعة عامة إلى حد ما: وبخاصة حول المعنى الذي يمكن العثور عليه في شاعر عظيم، لكنه يركز على «الجوانب الرئيسة للشعر كتجربة، وكممارسة داخل المجتمع ومن ثم علاقة الشاعر بالسياسة، أو بالدين، أو بعمل المحللين
النفسيين».
تقول ماتليد بونفوا ابنة الشاعر «»قبل وفاته بفترة وجيزة، كلفني إيف - والدي- بمهمة إكمال مشروع النشر هذا. لقد أوشك على الانتهاء من اختيار النصوص وكتب ايجازا، ولكن لا يزال هناك عدد من القرارات التي يتعين اتخاذها، فضلاً عن الحاجة إلى إعادة بناء الحوار حول الموسيقى من بين الملفات المبعثرة. فقد كان إيف لا يزال يعمل عليه في لحظاته الأخيرة وتمكن للتو من إنهاء نسخة بدت قابلة للنشر. اعتبر هذا الحوار مركزيا في الكتاب وكنت حريصة جدًا على
 تضمينه.
ولكن قد يتساءل المرء، لماذا أصر إيف بونفوا على تدوين - أو إعادة كتابة - إجاباته عن الأسئلة التي طُرحت عليه؟ هل كان لتعميق فكره؟ ليس هذا فحسب، فبالنسبة له، إن عدم الثقة في الكلمة المنطوقة التي تتعارض مع دقة الكلمة المكتوبة لا تعني الغنج الأدبي. كما أنها لم تكن عذرا مقنعا لممارسة السيطرة على تفكيره، فالمحادثة سياق تسود فيها الأفكار، في علاقاتها بأفكار أخرى، فيما تمتلكه من عمومية. والحالة هذه، لكي تكون فكرة الشعر جادة حقًا، كان يشعر أنه من الضروري الانتقال إلى مستوى آخر من استخدام الكلمات، لمحاولة استعادة بُعدها غير المفاهيمي، واضافتها على المعنى، ولا يمكن أن يحصل هذا إلّا من خلال ممارسة الكتابة الواعية بالإيقاعات الموجودة فيها وفي ما بينها، أي بالتضامن مع تجربة الوجود. هذا هو السبب الذي جعل بونفوا لا يأذن بنشر المناقشات الشفوية أو المحاضرات أو المقابلات إلا بعد إعادة كتابتها. فعنده لم يكن الحوار مجرد ملحق توضيحي للعمل، بل طريقة لتعميق أسسه. ولم يراوده الشك أبدًا في أن الشعر بوصفه «مؤسسا للوجود»، في أن مهمته «أن يجعل من المكان واللحظة يظهران ويعيشان في الكلمة». فالشعر وسيلة وليس غاية لتجربة كاملة للواقع. او هو ليس سوى لحظة من لحظات هذه المشاركة.
لكن هذا البحث عن الشفافية والوحدة دائمًا ما يهدده الفكر المعرفي، والإثم، حسب قوله، لتجسيد تصوراتنا من خلال تجريدها من العمق. «يمكننا أن نأمل في إيصال كلمات بمحتواها المفاهيمي، والتي تختزل العالم إلى أشكال مجردة وغير مكتملة، وسنظل دائمًا في المستوى الأدنى مما كان يسميه رامبو بالحياة
 الواقعية».
إذن يحتل الشعر، كجنس أدبي، مكان الصدارة، لكن صداه يتردد أيضًا في أشكال فنية أخرى. وعلى وجه الخصوص في الموسيقى، التي، مثل الشعر، إذ إن «البحث عن الحضور في فضاءات الأداء، هو أيضًا ظهور للأنا، وتعزيز للعلاقة الحميمة مع الآخر». أما بالنسبة للترجمة، والتي تعد مهمة جدًا في أعمال بونفوا (وهو الذي ترجم شكسبير على نطاق واسع)، فهي تستجيب له لذات اهتمامات الشعر في الاهتمام، وتحويل اللغة، والأمل في أن نكون قادرين على العمل على الآخرين. 
وفي حقيقة الأمر أراد بونفوا في مجمل حواراته مناقشة القضايا التي ينطوي عليها الانتقال من المحادثة الكلامية إلى الكتابة، وفي التفكير في الشعر.