الصورة اللغوية

ثقافة 2021/09/27
...

د. حسين القاصد
 
وكِلْمَةٍ في طَريقٍ خِفْتُ أُعْرِبُها
فيُهْتَدَى لي فلَمْ أقدِرْ على اللَّحَنِ
والبيت لأبي الطيب المتنبي، وهو بحسابات البلاغة لا صورة ولا تشبيه ولا استعارة فيه؛ وهي من اشتغالات المتنبي الكثيرة في هذا النوع من التصوير الثقافي الذي أداته اللغة؛ فهل للنقد الثقافي أن يجترح تسميةً لها؟ الجواب: واضح من متن البيت، فأدوات الشاعر في التصوير هي اللغة ونحوها، ومثل ذلك قوله:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً
مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم 
وفي هذا البيت اعتمد ابو الطيب (لم الجازمة) لينمط لنا صورة غير مألوفة في الشعر العربي، وإن صارت في ما بعد مألوفة ومتداولة لدى الشعراء، فقد انتشرت في شعر أبي العلاء المعري بشكل واضح.
 ليس في البيت آنف الذكر أي استعارة، أو تشبيه، فالشاعر تحكم بجريان الزمن الى الخلف، من المضارع الى الماضي، بمقدرته اللغوية، ليخبرنا أو يخبر سيف الدولة: بثقته في أن نوايا سيف الدولة ستحال للماضي المتحقق، المؤكد، المفروغ منه؛ وهو أي الشاعر وصل الى ذروة التصوير، لكن بعدسة اللغة وبعينه الثقافية، لا بوساطة التشبيه، حتى جعل المستقبل ماضيا، وهو ما زال خاطرة في ذهن سيف الدولة أو فكرة غير مكتملة أو غير ناضجة؛ فلو كانت قد نضجت لصرح بها سيف الدولة ولأضحت من الحاضر؛ وعلى الرغم من مستقبلية ما ينويه سيف الدولة، وصلت لسيف الدولة رسالة صورية رائعة مفادها: ليس أنك ما تقول يكون قد تحقق، بل ما ستقول “فعلت؛ وهو كسر أفق التوقع الثقافي وتجاوز العبارة الشهيرة” ان فلاناً اذا قال فعل “الى” ما سيقول
فعل!. 
بل نرى المتنبي اخترق قوانين النحو؛ ففي النحو لا يحق للمتكلم استعمال (لن) بعد (سوف) أو بعد سين التسويف، لأن المستقبل قبل للشك، وليس للمتكلم أن يتحكم به أو يحسم حدوثه؛ لكن المتنبي قلب القاعدة، بعد أن جعل النوايا، وهي في خلجات الإنسان، ماضيا متحققا، مفروغاً منه.
ولأبي الطيب الكثير من هذا، من مثل قوله:
حَولي بِكُلِّ مَكانٍ مِنهُمُ خِلَقٌ/ تُخطي إِذا جِئتَ في استِفهامِها بِمَنِ
لقد شبّه المتنبي من هم حوله، بأنهم حيوانات، من دون أن يذكر لنا وجه الشبه والمشبه والمشبه به وأداة الشبه؛ فقد كانت عدسة تصويره قد رسمت لنا الصورة التي يريدها، والرسم ليس تشبيها، وقد كانت فرشاته، هنا، هي مقدرته البارعة على توظيف مسميات اللغة والنحو وجعله أدوات تصوير.