الثقافة أيضاً ثقافة دولة

ثقافة 2021/09/27
...

 ياسين طه حافظ
الشباب والناشئة وحديثو الممارسات الأدبية عموماً كثيرو الطلبات، كثيرو الحماسات، كثيرو الخوض في موضوعات تمتد من القصيدة الفلانية إلى السلوك الفلاني، إلى ما يقوله النقد وما هم يقولونه. كلام بلا انقطاع. هي حماسة وهي طاقة تريد أن يراها الجميع. وهذا مفهوم معلوم إذا ما قورن برسوخ وصمت الذين تجاوزوا مراحل النشوء فانشغلوا بمسائل تمتد من الابداع إلى التفكير بما يستجد وإلى تأمل ما يتغير وقراءة المشهد بعقل يعرف خلفياته وأسسه، وبأقل الكلام وأكثر العمل.
من هذه كثرة التشعب في مسائل اختلاط المهام الثقافية بين ما نريد وبين تباطؤ أو لا كفاية إقناع الدولة. الدولة ليست دائماً كما يريد المثقف، حمداً إن لم تكن ضده.
مما يشغلني بين حين وآخر هو ما أحسسه من مسافة تبعد الثقافة عن الدولة. لا أعني السياسة الثقافية حصراً ولا الإدارة الثقافية قدر ما أعني نوع إحساسنا بالعالم الإنساني وهو إحساس يختلف عن إحساس الدولة، لا نحس أنها قريبة مثلنا من الإنسانية المتطلعة للأحسن والأفضل.
لكن هذا التفكير يضعني ساعات أمام ما يربك أو يخيف. فالدولة بعساكرها وتنظيماتها ومنها التنظيمات التربوية والثقافية غير متماثلة تماماً فيما بينها! وهي كما قلنا غير متماثلة مع ما في إدراك وضمير المثقفين. ثمة ما يفصل دائماً. فهل يمكن أن نردم هذا «الفراغ» اللا ودّي عموماً، بيننا؟.
ليس خافياً أن متطلبات الدول في الحماية وإدارة المجتمع والعلاقات الدولية توجهها إلى ما قد لا يبدو لنا مهماً أو إلى ما لا نرضاه، وقد يتحقق باحتفاء كبير ما لا نحبذه، أو لا نراه ذا قيمة. بالنسبة للدولة تلك أسس مصالح وطنية ومتطلبات وجود تنظيمي أما الحلم والأمنيات فهي من حصتنا للتطور ولرسم المستقبل وقبل هذين لإرضاء أنفسنا! بنية الدولة ليست هي دائماً بنية الثقافة وإن اتصلت بها. هذا الإحساس ليس عارضاً ولكنه إحساس تقوم عليه كل التطورات الثقافية والفنية وتجاوز التقليد إلى الأحدث منه وأحياناً كثيرة إلى الأهم. التعارض هنا فرصة للتميز ولتطوير المشروع وإنجازه..
المشكلة أن أجواء المثقفين أجواء فردية حتى وهم ضمن تجمع ثقافي. لسنا ضد هذا ولكنه يعيق قليلاً نضج المشاريع المقترحة. التسرع والحماسات تؤثر في طرح الرغبات وفي سلامة المختلف. لقد تخلصت الاكاديمية كثيراً من هذا، لذلك تأتي البحوث رصينة والمقترحات نتائج بحوث. فنحن في صميم البحث عن حلول وتطور. كنت على وشك القول إننا عندما نسأل عما يمكننا القيام به، يجب أن نكون واقعيين حيال ماهية مواقعنا والامكانات المتاحة والظرف، بيئة ومجتمعا. أيضاً ألا ننسى مؤهلاتنا الحقيقية ومصادرنا الثقافية. إن الأمور الممكن إنجازها محددة بالظروف التي نعمل فيها.
ما بين مثقفي الشعوب اليوم هو الكتاب أكثر من الفضائيات والصحافة، لأن الكتاب غالباً عمل شخصي، فيه أفكار ورغبات فردية وهذا الكتاب الحديث أوجد تعاوناً بين المثقفين وتفاهمات وعلاقات عبر الحدود، وهي إمكانية لم تكن متاحة في الماضي بهذا الحجم، ولذلك بدأت المؤسسات كما بعض السفارات تتولى ترجمة ونشر كتب، إدراكاً منها لأهمية نشر الأفكار الجديدة والثقافة المفضلة تمهيداً للتفاهم المستقبلي. إذاً لم يعد الكلام في الثقافة والحماسات السريعة مما يرضي أو يقنع.
 ثمة ما هو أكبر وأهم!، وعلينا أيضاً أن نعلم أن الكتاب الفكري، التاريخي والفلسفي، هذا الكتاب لم يبق دائماً بريئاً. حركات أفكار وتصحيحات أو تحريفات أو إخضاع لمتطلبات جديدة تكاد لا تنقطع.. لكن هذا لا يقلل من أهمية التضامن الثقافي عبر الحدود. اتصال المثقفين بمصادر أساسية معاصرة يعني تقاربهم النفسي والفكري. ويعني فهما مشتركا للحياة والظروف السياسية كما للحركات الاجتماعية، لم يعد إلقاء الكلام السريع من قلب المقهى إلى الشارع مقبولاً، وإن ظل حماسات جميلة. الثقافة اليوم أكثر جدية وآفاقها تستوجب علمية في الفهم والمتابعة.
كما يظل مؤسفا، ومقلقاً هذا الفارق الواسع بين «الحضور» الثقافي في الدولة و «الحضور» الثقافي لدى المثقفين، هذه فسحة مربكة وتُخلخل أي تآلف أو تفاهم حقيقي. بايجاز، ثقافة الدولة اليوم، كما هي الآن، غير ثقافة المثقفين. والتفاهم الثقافي الحميم عبر الحدود، عبر الكتاب الثقافي، يعني فتح عالم انتماء حضاري، فكري وفني، يجد فيه المثقفون خلاصاً أو «سوقاً حرة». هي أول منطقة واسعة خصبة، جميلة، ومثيرة يدخلها جميع المثقفين وبلا موافقات من أحد. طريق جديد وواسع إلى منطقة هي الأحدث في العالم. الكتاب لا يعرف الحدود.