ابراهيم الخياط.. فارس الأحلام المضيئة

ثقافة 2021/09/29
...

 كمال عبد الرحمن
يتمثل الحلم في استثمار الماضي الذاكراتي لبناء صورة تخييلية للمستقبل، تنعتق من أية قيود من الممكن ان تحجم قدرته على التناسل الحر، ففي عالم ولد منه، بإمكان الإنسان أن يصير كل شيء، وتعد آلية الحلم من أخطر الاليات الداخلة في جوهر العمل الابداعي، من بين آلياته المعروفة «التذكر والتجربة والحلم» وتتناسب مستويات فاعليتها فيه استنادا الى عاملين أساسيين، الاول خاصية النوع الابداعي، والثاني طبيعة الشخصية الابداعية، ومن خلالها يتحدد حجم حضور الحلم وسبل تأثيره ونماذج تنصيصه.
في قصيدة الشاعر علي حسن الفواز (كائن الظل.. كائن الضوء) ثمة اشتغال على سيرة ذاتية لكائن هيولي ينفرد بقدرته على التحول الى فارس يختصر الزمان والمكان في قبضته، وحيث تشهد التواريخ بأسفاره النبيلة، في مجرات الجمال والسمو، يكون ابراهيم الخياط قد تحول الى فارس الأحلام المضيئة:
 
(يمشي، يوزع خطواته مثل فارسٍ روماني،
يدرك أن المعركة تشبه عرض الازياء،
حيث الاناشيد،
والاساطير
والخيول، وحيث يلملم الشاعر الحكايات
ليرويها للأولاد المغويين..
كائن بلا خطوات،
يطير الى الحلم، يصطاد الضوء، ويستاف عطر البرتقال)
 
ويتمخض تأثير الحلم في العمل الابداعي عن قدر معين من الايهام الذي هو (جزء اساسي من حياة النفس البشرية، لا مفر من مواجهته ان نحن اردنا فنا يصف النفس، ويلمس حياتها لمسا دقيقا) كما انه يساعد في خلق الفضاء العام الذي تجري في مساحاته الحيوات الابداعية.
وهو يتجاوز وحدود الابعاد النفسية والفلسفية وتأثيراتها المتنوعة، بانفتاحه على طاقة تغذي العمل الفني بعناصر عمل وظيفية لا تنضب، وتتصل بأعمق مناطق الابداع غموضا واثارة، اذ انه يزداد عمق تأثيرها كلما جاءت مزودة بالقوة والعمق والثراء،وكلما كانت ذات قابلية أكبر على تنصيص وتفعيل المرايا، والسؤال المهم:
 
(كائن بلا خطوات،
يطير الى الحلم، يصطاد الضوء، ويستاف عطر البرتقال،
يهب قميصه لحكاية زليخا،
إذ تغسله بالماء الطهر،
لا تقدّه من قُبل، دُبر... فهو كائن الريح...
لا تنوشه الاصابع،
ولا تقايضه الاخطاء بالغواية..
لذا حمل روحه وأطلقها كالبالونات، يشاطرها الاحتفاء،
أو تشاطره اناقة الطيران...
يا ابراهيم 
خذ الهواء، والرمل، والطين والماء،
واصنع مملكة لتموز، إذ سيعبر اليك، يترك عندك 
رائحة عشتار)
 
وفي هذه القصيدة قيد الرصد، نجد الشاعر الفواز، قد سخر المكون الدلالي (الحلم) من تحرر فضائي متسع، من الممكن ان يضفي بظلاله على البعد الفكري للنص، من خلال الامتثال للتريث بتأثير فعل المضارعة (يصطاد)، معلقا جانبا من آماله على متعلقات الفعل (يشاطرها)، الذي يشير الى متضاد فاعل متوقع (تشاطره اناقة الطيران) و(سيعبر اليك) وبهذا يستحوذ المكون الدلالي الأول على اسنادين داخليين لوجوده، فضلا عن البعد بين (دبر) و(قبل) يتمثل أولا: بالنظرة الأحاطية الجوالة ذات البعد الشمولي الكلي الذي بامكانه رصد كل ما هو مهم ، وكأنه يريد القول: ان الافعال المسجلة لانسان هذا الواقع هي أهم أفعاله، فكيف هي الحال اذا كان أهم تلك الأفعال لايتعدى حدود الدوران في فلك التسآؤل (واصنع مملكة لتموز، إذ سيعبر اليك، يترك عندك 
رائحة عشتار).
وثانيا: قلب الرؤية، وعبرتبادل المواقع بين المبئر والمبأر،ليستحوذ، فضاء الأمل على نقاء الموقف(ولا تقايضه الاخطاء بالغواية)
إن قصيدة الشاعر علي الفواز، هي محاولة لابتكار يوتوبيا لنص انساني ينهض من سيرة فارس الضوء ابراهيم الخياط (دع احلامك قريبة، وهاتفك عند حافة الوقت، فالصوت سيوقظك حتما، يتسلل نحوك مثل الاطفال.
إنه نداؤك القديم،
نداء الفكرة والرؤيا،
نداء الحسين الذي وقف دون الموت،
فترك قميصه يتسع للحكايات)، اذ يحاول النص دفع «الحلم» الى منطقة الحضور (كائن بلا خطوات،
يطير الى الحلم، يصطاد الضوء، ويستاف عطر البرتقال،
يهب قميصه لحكاية زليخا،
إذ تغسله بالماء الطهر،
لا تقدّ ه من قُبل، دُبر... فهو كائن الريح) ...
 
مركز الفعل الشعوري وبؤرة الحكاية ـ بوصفه يمثل جدلية” النوم/ اليقظة” الذي له القدرة على تصنيع معجزات حلمية صغيرة او كبيرة ربما
تتحق.
تنهض الفعالية الشعرية هنا على فكرة التضاد في ردم المشهد، بمعنى ان تقوم الفكرة بعمل مزدوج مركب في محو مجال شعري “الحلم” لتشييد مجال شعري آخر فوقه (يا ابراهيم
دع احلامك قريبة، وهاتفك عند حافة الوقت،) وقد عزز بشبكة لغوية متنوعة المظاهر والصيغ:
(خذ الهواء/ والرمل/ والطين/ والماء/ واصنع مملكة لتموز.. الخ) 
ويستمر فضاء الحلم مقترنا بعالم الغياب او الاحتمال الدائم بالانتهاء في حدوده التي تؤهله في النهاية من خلال بوابة الأمل الى اقتحام قلعة الألم:
 
كائن بلا خطوات،
يطير الى الحلم، يصطاد الضوء، ويستاف عطر البرتقال،
يهب قميصه لحكاية زليخا،
إذ تغسله بالماء الطهر،
لا تقدّ ه من قُبل، دُبر... فهو كائن الريح...
لا تنوشه الاصابع،
ولا تقايضه الاخطاء بالغواية..
لذا حمل روحه وأطلقها كالبالونات، يشاطرها الاحتفاء،
أو تشاطره اناقة الطيران...
يا ابراهيم 
خذ الهواء، والرمل، والطين والماء،
واصنع مملكة لتموز، إذ سيعبر اليك، يترك عندك 
رائحة عشتار،
رائحة الليل والشغف واغاني الفقراء...
يا ابراهيم
دع احلامك قريبة، وهاتفك عند حافة الوقت،
فالصوت سيوقظك حتما، يتسلل نحوك مثل الاطفال..
 إن التحولات المرآوية التي تشهدها مساحة الحلم في النص، تبدأ من نشاط الفاعل الشعري (يطير الى الحلم + يوزع خطواته)، معززا بصفات سابقة (نداء الحسين الذي وقف دون الموت، فترك قميصه يتسع للحكايات، ويستاف عطر البرتقال، فالصوت سيوقظك حتما، يتسلل نحوك مثل الاطفال) تؤنسنه وتؤسطره وتقربه كثيرا من حدود
المثال.
ان مراحل التحول تنمو نموا دراميا متسلسلا، شروعا من ارضية الصورة التحريضية (ولا تقايضه الاخطاء بالغواية لذا حمل روحه واطلقها كالبالونات، يشاطرها الاحتفاء) حيث يبدأ الحلم ثانية باشاعة الضوء، انتقالا الى (وهاتفك عند حافة الوقت، فالصوت سيوقظك حتما) فاستثناء الأمل من الألم يحرك المشهد الصوري ويفتحه على احتمالات كثيرة للفعل والتأثير، وهي مرحلة انتقالية تتوسط الصورة الشعرية وتفصل الغياب (إنه نداؤك القديم)،عن الحضور(فالصوت سيوقظك حتما) والثبات عن الحركة. ثم ما تلبث صورة الحلم التي ينشدها النص ان تظهر مباشرة، بكل ما ينطوي عليه الحضور من فاعلية وحسم (دع احلامك قريبة، وهاتفك عند حافة الوقت، فالصوت سيوقظك حتما، يتسلل نحوك مثل الاطفال) متجاوزا الماضي بضوئه ومشرقا على المستقبل.. ذاك هو ابراهيم ملك البرتقال
 والأحلام.