شكر حاجم الصالحي
منذ زمنٍ غير بعيد اختفت العديد من الصناعات والمهن الشعبية, ولم يعد لها ذلك الحضور في الذاكرة الجمعيّة لأسباب عديدة ومختلفة لسنا بصدد تتبع مبرراتها ودوافعها, ولكنَّ المهم أنها غابت عن التداول اليومي بفعل التطور المجتمعي الذي حصل بفترات متعاقبة, وحديثنا في هذه السطور عن (الوحّاش) تلك المهنة التي كان يضطلع بها القادر على تحمل أتعابها والسهر المضني في ليالي البرد, إذ شهدت مدننا وقصباتنا وقرانا هذه المهنة (الوحاشة) أو (النطارة) أو (الحراسة) وكانت هذه تنظم بأعراف اجترحتها جموع الناس في تلك الأماكن, بسبب غياب قوى حفظ الأمن أو قلتها, وانتشار حركة اللصوص (الحرامية) خاصة في قرانا الآمنة, بفعل تردي الأوضاع المعيشية وشيوع البطالة بين الأفراد القادرين على العمل, فاضطر من اضطر الى امتهان السرقة لكسب القوت والمال وغالباً ما تكون تلك السرقات مقتصرة على (الحلال) من المواشي والأبقار, وازدهرت هذه المهنة (الوحاشة) في القرى على ثلاث حالات هي:
الأولى: يتم الاتفاق على أنْ تقوم كل أسرة بحراسة ليلة كاملة, حتى تشمل جميع الأسر, وتتحمل الأسرة المكلفة بذلك بتعويض أصحاب البيوت التي تتم سرقتها.
الحالة الثانية تسمى (وحاشة رمح)، إذ يتبرع أحد الأفراد ممن له قابليات جسمانيَّة وقوة بدنيَّة بحراسة ليلة بطولها لوحده, وقد لا يقوم بالحراسة الفعلية سوى الإعلان عن أنّ فلاناً سيتولى الحراسة في تلك الليلة، ما يجعل اللصوص في وجلٍ وخوفٍ فلا يقدمون على السرقة أبداً، وهذا المتبرع يتقاضى من كل بيت مبلغاً زهيداً من المال أو يأخذ بدلاً عنه شيئاً من المحاصيل الزراعية المتوفرة.
أما الحالة الثالثة فتقوم مجموعة من أبناء القرية يقودها رجلٌ من بينها يطلق عليه (الملتزم) وهو أشبه بالمقاول في أيامنا الراهنة, على أنْ تتوفر في هذا (الملتزم) الشجاعة والقوة والخبرة والحكمة, شرط أنْ يتعهد لأهل القرية بخسارة ما ينتج عن السرقة عند حدوثها. ويدّون بذلك اتفاق بحضور الشهود من أهل الثقة.
ومما يجدر ذكره أنَّ الشرائع العراقية القديمة, حمورابي وقانون أميشنونا لم تغفل الإشارة الى مهنة الحراسة في العراق القديم, ويمكن الإشارة الى المادة (11) من ايشنونا التي تقول:
«إذا حارس مهمته حراسة دار والدار هي سبب معيشة رجل ما, وأهل الحراسة (فكسر باب الدار فالحارس سوف يقتل...) ويجب أنْ يقبر أمام كسرة الدار ـــ د. فوزي رشيد ــ الشرائع العراقية القديمة ص 71, وأرى أنَّ هذه المادة فيها من القسوة ما لا يتناسب مع فعل السرقة الشائن.
ومن الأعراف السائدة في القصبات والقرى, أنَّ على الحارس (الوحاش) التعهد بخسارة السرقة التي تحدث بعد الساعة الواحدة ليلاً من ماله الخاص, بعد مضي شهر على حدوثها, أما إذا طلب الحرامية (البخت) بعدم إيصال الموضوع الى دوائر الأمن والشرطة والتعهد بإرجاع المسروق لقاء مبلغ يسمى (الحلاوة) فيدفع الحارس نصفه والنصف الثاني يدفعه أهل المسروق.
ومن المأثور الشعبي حول الوحّاش:
اثنين ايشيبون من وكت الجلب والوحاش,
وغالباً ما تتم السرقات عند الفجر بعد أنْ يتسرب التعب والملل الى أجساد الحراس النواطير فيقال (نظارة العكروك), ومن الأسلحة الراضة والجارحة وفي النادر هي النارية، ومن الأعراف التي درجت عليها تلك الأيام, ولنأخذ لذلك مثلاً ما جاء في المادة (11) من شريعة عشتار التي تقول:
«إذا كان لرجل أرض مهجورة مجاورة لدار رجل آخر, وصاحب الدار قد قال لصاحب الأرض المهجورة لكون أرضك مهملة, فربما يدخل أحد الى داري (من أجل السرقة) فقوِّ دارك (أي سوّر أرضك المهجورة) ويتم الاتفاق بينهما (على ذلك) فإنَّ صاحب الأرض المهملة سيعوض صاحب الدار عن أية خسارة تحدث له... ــ الشرائع العراقية ــ ص 41 /42».
ومن الدارمي العراقي الجميل:
ياخنجر الوحاش كرن لغزالهْ
وأرد ألكف المكوار وانطر بداله
هكذا كانت أمنية الحبيبة وهكذا كان واقع حال قرانا وناسها:
وأرد أرفج الوحاش وانطر عكدهم
بلكت توالي الليل تطلعلي بتهم
وخير ما نختتم به هذا الموضوع الموجز ما قالته إحداهن:
صبحنه يمّه اليوم وامعزلينه
غصبن على الوحاش يخسرها لينه