فيضان بغداد سنة 1907

فلكلور 2021/09/30
...

 علي أبو الطحين
يعد التصوير الفوتوغرافي وسيلة فاعلة لأرشفة التاريخ البصري من خلال توثيق الأحداث التاريخيَّة المهمة. وتمنح هذه الوسيلة المرئيَّة إدراكاً ذهنياً متفاعلا في رسم ذلك الحدث التاريخي. في سنة 1907 أصدرت شركة عبد العلي أخوان في بغداد، ضمن إصداراتها من البطاقات البريدية المصورة، مجموعة بطاقات لصورٍ فوتوغرافية عن الفيضان المدمر الذي ضرب مدينة بغداد ربيع ذلك العام.
 
مع بداية شهر نيسان من كل عام يرتفع منسوب المياه في نهري دجلة والفرات نتيجة لذوبان الثلوج في المناطق الجبلية التي تنبع منها روافد النهرين العظيمين، ويسبب هذا في كثيرٍ من الأحيان فيضانات في المدن العراقيَّة. لكنَّ الأمر ازداد سوءاً في ربيع سنة 1907. فبدءاً من نهار يوم الخميس 28 آذار حدث انقلاب عظيم في الجو، وسقطت كمية هائلة من الأمطار تحت صوت الرعود المدوية والبروق الساطعة التي تذهب الأبصار، ولمدة خمسة أيام متتالية، ففاض نهر دجلة وكسرت المياه الحواجز وغرقت المدينة. اجتاح الرعب سكان بغداد، حيث يذكر الدكتور علي الوردي نقلاً عن الأب انستاس ماري الكرملي بالقول: «وأما الدور فسقط كثير منها على أهاليها فقتلتهم. ومنها نبهت أهاليها على الفرار ففروا من هجوم المياه تاركين كل ما عندهم من اثاث البيت حتى غدت النجاة من أنفس النفائس. وقد دخل الماء عدة محلات وأحياء وأتلفها عن آخرها. أما الموتى من إنسان وحيوان فلا تحصى، إذ ترى الجثث تطفو على وجه الماء وليس من يلتفت إليها وأغلب الهلكى من أهل البادية، إذ فاجأهم الماء وعلاهم بدون سابق علامة أو خبر. وكنت تسمع الجلبة والصياح في الليل كأنَّ يوم القيامة قد جاء بهوله ولا يعلم الى أين المفر. فلا ترى إلا ضوءاً هنا، وامرأة مولولة هناك، وفي تلك الناحية حائط يدفن عشيرة بأسرها، وفي ذلك البستان يسمع النواح والعويل. والخلاصة ذكر مثل هذا التفصيل وسماعه مما يفت الأكباد ويسحق الصم الأصلاد».
بالعادة تخترق سيول فيضان نهر دجلة جانب الرصافة دون جانب الكرخ الأكثر ارتفاعاً، لكن تحت زخم الأمطار والسيول القادمة من نهر الفرات كانت المصيبة أكبر وأشد في الكرخ. وقد وصف المرحوم عبد العزيز القصاب في كتاب ذكرياته تدفق المياه الآتية الى الكرخ، فقال: «فاكتسحت جميع السهول بسرعة مدهشة حتى وصلت الى سدة المسعودي الكائنة بالقرب من مرقد الشيخ الجنيد والست زبيدة. ومن شدة اندفاع المياه انكسرت أيضاً سدة المسعودي وقد تدفقت الأمواج المتلاطمة على جانب الكرخ ولم تتوقف إلا بالقرب من سوق حمادة وعلاوي الحلة بعد ما هرع جميع الأهلين رجالاً ونساءً مع الجنود والفلاحين والعمال لإنقاذ جانب الكرخ. ولقد شاركهم في ذلك العلماء والوجهاء ونقلوا الأتربة والحصر والأخشاب لمدة أسبوع تقريباً. وكان هذا الحادث من أفجع الحوادث. ولقد أحدث هذا الفيضان الفظيع أضراراً جسيمة في المزروعات والمواشي والأبنية والنفوس. وعلى إثر ذلك قررت الحكومة تشكيل لجنة لتقدير الأضرار برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب وعينتني سكرتيراً لها. وأذكر أنَّ الإحصاء الذي قدمناه قد أثبت انهيار أكثر من مئة وخمسين داراً وموت أكثر من سبعين شخصاً تحت أنقاضها. ولقد أسعفت الحكومة الأهلين وساعدتهم بالتعويضات المناسبة.
ووضع الشاعر معروف الرصافي قصيدة طويلة عن تلك الفاجعة المؤلمة بعنوان «سوء المنقلب» جاء في مطلعها:
بغداد حسبك رقدة وثبات .. أو ما تمضك هذه النكبات
ولعت بك الأحداث حتى أصبحت ... أدواء خطبك ما لهن أساة 
قلب الزمان اليك ظهر مجنه ... أفكان عندك للزمان ترات
ومن العجائب أن يمسك ضره ... من حيث ينفع لو رعتك رعاة
إذ من ديالة والفرات ودجلة ... أمست تحل بأهلك الكربات