فضولي البغدادي والتغني بالحب الإلهي

ثقافة 2021/09/30
...

 علوان السلمان
 
(شربت رحيقا من إناء محبة/ وما عدت أدري ما الإناء ومن أنا)
الشعر.. شكل تعبيري عن لحظة شعورية تتشكل صوريا عبر بناء مركب يخلقه شاعر فيكشف عن رؤيته الكونية بإتباع بصيرته الساكنة في (القلب مركز العواطف) و (العقل الحاضن للأفكار) من أجل المصالحة مع ذاته عبر موسوعية معرفية ولغوية وعين باصرة واعية وسبك الجمل الحاضنة للفكرة التي هي جزء من الشخصية.
وفضولي البغدادي شاعر الأمكنة (الحلي) بشهادة قوله:
لسانك حلو لحظ طرفك ساحر/ كأنك حلّيٌّ وأرضك بابل
الكربلائي/ بجسده المدفون في المشهد الحسيني تجاه باب القبلة.. / الكركوكلي التركماني بديوانه الذي كتبه بلغتها.
فضولي البغدادي.. شاعر الأزمنة بكل امتداداتها الصوفية ببوح عربي، فارسي، تركماني يستفز الذاكرة، مع تضافر القيم الروحية والتعبيرية ليشكل نصه بعده الجمالي الذي يقوم على ثنائية الذات والموضوع (الأنا) المتكلم و(الأنت) المخاطب.. ليجسد خطابه الفكري بدينامية متسائلة.
البغدادي الذي قرن منجزه الشعري بلغاته (العربية والتركمانية والفارسية) متناولا موضوعات مختلفة (فلسفية وفكرية واجتماعية ودينية) حتى أن الشاعر مهدي البغدادي قال فيه (انه كامل بكمال المعرفة.. فاضل بفنون الفضائل.. لا ند له في بلاغته...) بصوفيته التي هي (ضبط الحواس ومراعاة الأنفاس) على حد تعبير ابو بكر الشبلي والتي تقترب من قول الرسول (ص): (الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك..) كونهما حقلين متقاربين، متفقين أسلوبيا في اللغة والصورة
 والإيقاع.
(بدر بدا بجــــــماله متكملا/ فاق الملاح جماله بكـــماله/    وا بهجة سلب القلوب بلحظه/ وبقــده وبخـــده وبــــخالــه/ في الاستـــقامة قـــده متـــــعذر/ ما دار حــول الوهم فكــــر مثاله/                                                                    لسرور آيات المحبة وجهه/ عيدٌ وحاجـــــبه مثال هـــــــلاله/ غصن إذا قصــــــد التحرك قده/ متمايلا بيــــمينه وشـــــــماله).
 فالشاعر يحذو في نصه حذو الصوفية بتوظيف مصطلحاتها، كـ (الخال) الذي هو عندهم النقطة التي هي مدار دوائر الكون والركيزة التي تنطلق منها رؤية نظام التناسب الجمالي ليخلق نصا تتوزع فضاءاته على حقول دلالية مرتبطة بالذات المنتجة من جهة وبفضاءات منفتحة الآفاق من جهة أخرى، بما يحمله من دلالات نفسية واجتماعية وروحية مقترنة برؤية شعرية كاشفة عن إحساس الشاعر والتعبير عن العمق العاطفي والروحي.. وجوهره الفكري المتمثل في (الذوبان في روح الله).. (أباهي بوجد قد تمكن في الحشا/ وذلك فضل الله يــــؤته من يشا/ فلولا مدار الدهر مـــركز خاله/ لكان نظام الكائنات مشــــوشا)..
 فالنص بطاقته التعبيرية يكشف عن كوامن الذات (الفكرية والوجدانية) باعتماد اللفظة الموحية التي تعد من الممكنات الجمالية، فضلا عن اعتماده الى عوالم ودلالات أبعد من دلالاته الواقعية من خلال شحن الفاظه بأقصى الطاقات التعبيرية.. لقد تجسد التصوف ورحلته الروحية عند البغدادي عبر مراحل محددة، ابتداء من انقطاعه وتفضيله السياحة متنقلا ما بين (الحلة وكركوك وكربلاء..) والتي اسهمت في اكتناز فكره بثقافات متعددة.. انعكست في شعريته وأكسبتها حسية ورقة من جهة وغنى صوفيا وعرفانيا من خلال توظيف الالفاظ الصوفية ومجاهدة النفس من جهة أخرى.. مما انعكس على قصائده التي توحدت فيها الاغراض الشعرية وأخذت مسارات خاصة ونقطة مشتركة وقاسما مشتركا ألا وهو التصوف والتغني بالحب الإلهي.. وكل هذا اضفى عليه من الألقاب كـ (سلطان الشعراء وشيخهم وأفصحهم..) الا انه اختار لنفسه لقب فضولي كي لا يشاركه فيه أحد.. وقد اتخذ نهجه عدد من الشعراء منهم الشاعرة التي تجيد الكتابة الشعرية باللغتين التركمانية الام والعربية.. منور ملا حسون لقربه من أسرتها ومنها بمؤلفاته التي احتلت مساحتها على رفوف مكتبتها والتي ترى (ان التصوف والوجد عند فضولي هما عنصران مهمان في غزلياته، حتى كأن روحه المرهقة تستقر وترتاح من مخاضها الملذّ حين يعلن في النهاية بأنه لا ينجو من أسار وجده الذي لا يؤثر فيه الزمن ولا يرقى إليه النسيان.. فالتصوف عنده هو الابتعاد عن الأغراض الدنيوية، وهو يمثل جزءاً من الثقافة فضلا عن أنه يمثل الجانب الروحاني من الإسلام الذي بث في النفوس السمو
 والتعالي.