معياريَّة الجمال والقبح بين جيلين

ثقافة 2021/10/05
...

 د. كريم حواس
 
إن الاختلاف او التباين بين الناس سمة للوجود والكون، ويبدو انها ضرورة ملحة، وتنسحب تلك الضرورة في اهمية الاختلاف في حياتنا حتى لتكون بين الفرد وذاته في أحيان كثيرة، فنحن -بني البشر- مختلفون في التلقي وأسلوب التعامل مع الأحداث والاشياء وفقاً لمنطلقات عدة «ايديولوجية وثقافية، ونفسية»، ومفردة واحدة من جدلية الاختلاف تلك مفهوم الجميل والقبيح، وهذه الثنائية لم نهتدِ او نتفق على معيارية حكم ثابتة تكون مرجعاً وحكماً، فما زالت واحدة من الموضوعات المعقدة جداً والواسعة المفاهيم ومتشعبة الآراء لما تحمله من زخم دلالي وفلسفي ونفسي وتأويلي.
 إذا كيف تتكون أحكامنا الجمالية تجاه الأشياء؟، وهل للبيئة والمكان تأثير ما؟، وهل الفارق الزمني يحدد ذلك؟، وماهي المدة الزمنية المقبولة كأساس لتغير المفاهيم؟، وماهي العوامل النفسية والثقافية التي تعد كمحددات لمعيار جمالي مقبول؟.
قطعاً الاجابة عن تلك الاسئلة بشكل مفصل غير ممكنة بل قد تكون شبه مستحيلة؛ لان كل حالة لها خصوصياتها وظروفها ومبرراتها، ولا يمكن حصر جميع تلك الحالات منفردة لتكون فكرة حول الموضوع إلا بجهود بحث استقصائي، وهذا هو الآخر قد يشوبه الكثير من عدم الدقة والمصداقية إذا شككنا نحن كباحثين في مدى صدق استجابة مفحوصين ومقدار صحة المعلومات التي يتم جمعها. وعلى الرغم من ان الأبناء وفق مفهومنا السائد يفترض ان يكونوا نسخا إن لم تكن متطابقة للآباء فهي على أقل تقدير تشبههم الى حد كبير لعدة أسباب منها أنهم ينتمون الى البيئة نفسها، المحدودة كالأسرة، والكبيرة كالمجتمع، وتأثير الآباء بلا شك عن طريقي الوراثة والتربية والمحيط كعوامل مؤثرة ربما تجعل للأبناء من آبائهم على الأقل صفات وسمات
مشتركة.
 وهاهنا استوقفتني تلك الحوارية بين شاعر الحب والغزل المتيم المجنون قيس بن الملوح مع أبيه عن القضية الخلافية والجدلية ثنائية الجمال والقبح. من وجهتي نظرهما باعتبارهما مثالا جيدا للمعيارية بين جيلين «أب وابن وظرف زماني واحد وبيئة ثقافية واحدة»، وهو محيط بمجمله محدود لا تأثيرات اقليمية او عالمية عليه حتى يكتسب أحدهما تأثيرات ثقافية معينة او مغايرة لبيئتهما الثقافية ومن ثم تنعكس على أحكامهما.
 ففي حياة شاعرنا العاشق الولهان الذي كنا نتداول قصته الدرامية وموته المأساوي في الصحراء ملقى على الحجارة
توسَّد أحجارَ المهامهِ والقفرِ
ومات جريحَ القلبِ مندملَ الصدرِ
فيا ليت هذا الحبُّ يعشق مرةً
فيعلم ما يلقى المحبُّ من الهجرِ
فكانت قصته تلك ملهمة لنا ونردد أشعاره لوصف من نحب تارة او نجعل منها مشابهة لحالات عشقنا تارة أخرى، مع الفارق طبعاً بيننا في الثقافة والزمان والمكان والأسلوب. 
سبتني شمسٌ يُخجل البدرَ نورُها
ويكسف ضوء البرق وهو بروق
غرابيَّة الفرعين بدريَّة السّنا
ومنظرها بادي الجمال أنيقُ
 
تلك أبيات الغزل وغيرها قد شدتني بوصف روعة جمال محبوبته حتى خُيل لي أن ليلى أجمل من ليزا «سيدة الجيوكندا العالمية» او أجمل من «بنت المعيدي» في المخيال الشعبي لموروثنا العراقي والتي علقت صورها على مجمل اثاث كثير من بيوتات العراقيين آنذاك، وهما المثيرتان للجدل حول حكاية شخصيتهما وقصة رسم تلك اللوحتين كذلك. ورحت ابحث عن مكامن الجمال الذي أسر قلب شاعرنا المتيم في شكل وملامح العامريَّة، فوجدت خطابين أحدهما للملوح بن مزاحم أبي قيس حين أشفق على ابنه على ما حل به من هيام وجنون مخاطبا إياه: «ليت شعري ما أراها ممن يوصف بالجمال والحسن، وقد بلغني أنها فوهاء، قصيرة، جاحظة العينين، شهلة، سمجة، فعد عن ذكرها ولك في قومك من هو خير لك منها».
وقد ظننت أن وصف أبيه لقباحة شكل ليلى كان مبالغاً فيه او ذمها بما ليس فيها بغية إبعاد قيس عنها، لكن الغريب بالأمر أن قيس لم ينكر ذلك بدلالة أنه برر ذلك بقوله: 
يقول لي الواشون ليلى قصيرةٌ
فليت ذراعاً عرض ليلى وطولها
وأن بعينيها، لعمرك شهلة
فقلت كرام الطير شهلٌ عيونها
وجاحظة فوهاء لا بأس أنها
مني كيدي بل كل نفس وسؤلها
فدق صلاب الصخرِ رأسك سمداً
فإني الى حين الممات خليلها
 
ومعيارية حكم الجمال لهاتين الرؤيتين من وجهة نظر الأب والابن تبدو شديدة التباين، واعتقد أنها ستستمر بهذا التباين في كل زمان ومكان، لأنها متعلقة بحجم وعمق الارشيف الذي ينشئه الفرد لذاته ونوع شيفراته وتطابقاتها مع الآخر. 
فوهاء: واسعة الفم 
شهلة: يشوب سواد عينيها زرقة 
سمجة: قبيحة لا ملاحة ولا جمال في وجهها.