مضادات الأكسدة الفكريَّة

ثقافة 2021/10/05
...

  د. نصير جابر
 
النظرية النسوية شأنها شأن أغلب النظريات الإنسانية التي تجعل من الإنسان هدفها الوحيد وغايتها الأولى والأخيرة، تبدأ بمقولات محدّدة وأفكار بكر وطروحات جديدة ثم تتطوّر وتنفتح على آفاق ومديات رحبة، وتهضم ما يدخلها من تفسيرات وتأويلات مختلفة وتعرّك الانتقادات الموجهة لها لتعيد توظيفها في مجرى جديد  حتى تستقرّ في مستوى فكري قارّ يمكن أن يكون منطلقا حقيقيا ودائما نحو التحديات القابلة التي تراهن عليها.
 ولكن هنا نتساءل بكثير من الحياد، هل يمكن أن تشيخ هذه النظرية -مثلما شاخت غيرها- ومن ثم تنكمش وتذوب في تفسيرات جانبية وهامشية منتجة هويات فرعية على الرغم من طبيعتها الأممية العالمية؟!!.
هنا أفترض أن هذه النظرية لا تشيخ أبدا لأسباب كثيرة موضوعية وذاتية، أولها إنّ هذه النظرية ستظل تحتقب كل التغييرات التي تطرأ عليها وتعيد انتاجها لصالحها على الرغم من كل الارتدادات التي تعترضها ورهانها في ذلك هو الزمن، إذ إنه كفيل دائما بتفكيك الأزمات التي تعترضها ومن ثمّ حلّها وقبولها، ولعل من أبسط الأمثلة على ذلك الموقف العربي القديم من تعليم المرأة، كيف بدأ أوائل القرن العشرين، وكيف انتهى اليوم، ومثله موقف العقل العربي من مشاركة المرأة في  الفن عامة وفي السينما والمسرح خاصة بوصفهما حالة اشهارية تحرج القيم القبلية عندهم التي ترى في أن مكان المرأة هو البيت فقط، لذا استعاض بعض المخرجين بالرجال لتمثيل الأدوار النسائية عندما كان من العسير جدا الحصول على امرأة تقبل دخول هذا الوسط، ولكن الحال تبدّل بسرعة بعد عقود قليلة لتتقبّل منظومة القيم هذا الأمر وتعتبره من البديهيات التي لا جدال فيها.  
ومن الأسباب المهمة للشباب الدائم والمتجدّد لهذه النظرية أنها تشعّبت إلى اتجاهات عديدة تبدو متناقضة المشارب والموارد، فهناك النسوية الليبرالية والنسوية الماركسية والوجودية، ولكن هذا التشعّب كان قوة دفع لها وماء نقيّا غمرها بروح جديدة؛ لأن هذا التجايل والتجاور والامتداد على الرغم من الوصف المتناقض العام له جعل الأسس الفلسفية التي تقوم عليها هذه الاتجاهات تدور كلها وتختلف ولكنها في النهاية تتجمع في بوتقة واحدة هي خدمة الأهداف التي تقوم من أجلها هذه النظرية.
ولعلّ السبب الأهم والأعمق في ديمومتها يتعلق في طبيعتها الحركية التي تنهل من عالم المرأة وكل ما حوله وما يحدثه  وجودها من أثر فعّال في الواقع، لأن الثبات دائما ما يؤدي إلى الركود ومن ثم الموت، وهذا التسلسل غير وارد مطلقا في مسيرة النظرية النسوية التي ستظل متحركة نابضة بالحياة مادامت هناك امرأة تحاول أن تطالب بحقوقها المشروعة. 
ويمكن أن نضيف أيضا إلى تلك الأسباب أن هذه النظرية لم ترتبط بأشخاص معينين مثلما ارتبطت الوجودية مثلا بشخص جان بول سارتر (1905 - 1980)، فكانت تملأ الدنيا وتشغل الناس ولكن بمجرد وفاته تلاشى الضجيج من حولها وانسحب تأثريها ووهجها المعرفي بعده كثيرا!!. 
إنّ النسوية بموجاتها المتعدّدة وارهاصاتها المتميزة نظرية حيّة جدا ستظل عابرة لكل الحداثات والتغيرات، وراسخة بثبات كبير لأنها جزء من العنفوان الانساني النبيل الساعي إلى حياة  تستحق أن تعاش.