ما الكتابة؟

ثقافة 2021/10/05
...

ياسين النصير
 
كنت في حلقة نقاش عن مسرح اللامعقول، يوم كنت أعمل في ورشة في بلجيكا لصالح ثقافة 11، وكنا مجموعة متباينة المهمات، بيننا المؤلف والسينارست والمخرج والممثل والناقد ومن كلا الجنسين، وكان موضوع الحلقة هو «ما الكتابة» والمقصود بالكتابة كل نشاط تعبيري يمكنه أن يؤدي غرضاً معيناً، واتفقنا على أن لا نتوسع في الحوار حول الكتابة أو الأشياء أو الموضوعات أو الأفكار، عندئذ يتشعب الموضوع ولم نحصل إلّا على مجموعة آراء قد لا يربط بينها أي خيط معرفي. ما الكتابة هو سؤال المعرفة التي تسبق ما سوف تكتبه، وهو سؤال القراءة التي تلحق بما كتبته. فالكتابة تكوين في المكان الوسط الذي يصوّب عيناً على موضوع سابق هو ميدان الكتابة عنه، وعيناً أخرى على موضوع لاحق هو ما سوف يُقرأ من المكتوب. وكان المشكل الأساس هو سؤال ماهي الكتابة؟. هل هي ما يقرأ أو يرسم أو يتحرك أو يقال شفاهة أو يُسمع أو يرى؟، فكل هذه الأفعال الإرادية واللا إرادية التي يؤديها الجسد هي كتابة من نوع خاص، ومن دون الكتابة لايمكنك أن تقرأ، ولا أن تشاهد عرضاً فالحركة كتابة، ولا تسمع موسيقى فالنغمات كتابة، ولا ترى لوحة فالخطوط والألوان كتابة، وهكذا تصبح الكتابة ترجمة للأفعال، وعبثاً نقول عن هذه الأفعال أبجدية مهما كان نوع النص، بل هي تشكيلات مختلفة من اللغة والرؤية والسماع والخبرة والادراك والذوق والشم، نحن في عالم يضخ علينا في كل ثانية ملايين الصور، وعلينا أن نستقبلها بأجسادنا التي عليها أن تكون واعية بها، هذه الأبجدية الكونية، ما يترجم منها على الورق أو القماشة أو خشبة المسرح أو صالة الموسيقى أو أي مكان، ليس إلا النص المكتوب، وليس الكتابة من دون نص، من هنا يكون فعل الكتابة فعلين: الأول هو أنك ستترجم ما تعيشه بكلمات وهذا هو النص الذي يخصك، اما الفعل الثاني فهو ما يحتويه النص من اشارات وتأويلات قد لا تكون كلها مرئية او مسموعة أو محسوسة، عندئذ ثمة فراغ غير مكتوب يلفه غموض في وسائل الاتصال. دائماً يرافق الغموض المواقف الملتبسة.
من يكتب؟ ومن يتلقى ما يكتب؟ كل الروائيين يتلقون ما يجري ليكتبوا، فهم يجلسون في المقعد الخلفي للأحداث، وكل الشعراء يقتربون من الحدث ثم يندمجون فيه ثم يكتبون ما يملي عليهم الحدث، لأنهم لا يملكون إلا المشهد العياني، في حين للمشهد مرآة مختفية تعكس أشياءه على ما لا يرون، والشاعر يكتب اللامرئي مما يرى. شيء ما غامض يحدث عندما تتعطل المشاهد عن كتابة نفسها، عندئذ تتولى المرآة كتابة ما تجب كتابته. قد يقول البعض كيف، تكتب المرآة؟ في منهجية التأويل قد يتوقف القارئ من تأويل أي كلمة، عندئذ تتولى الكلمات تأويل نفسها، من خلال إنعكاسها في مرآتها، لاتوجد كلمة في النص تكتفي بما هي في موضعها، كل كلمة كائن يتحرك خارج موضعه، يأتي القارئ فيحركها ويجد لها مأوى ومن ثم يوسع من دائرة اشتغالها بالتأويل، وكل كلمة لا تتحرك في موضعها كلمة ميتة، حتى لو قرئت وأولت وأصبحت شيئاً آخر، ما يحرك الكلمات وهي مواضعها، هو ما تحتويه في داخلها، قد لا يكون ثمة عامل خارجي مؤثر، ولكن الحركة ملازمة لوجودها النحوي والدلالي، والنصوص الكبرى مهما تقادم زمنها مشحونة بما يجعل كلماتها تنطق عبر السنين، وكأنها تواجه مشكلة ما إذا لم تنظر في مرآة ذاتها. ماذا بشأن الآثار المدفونة في أعماق التربة؟ ألا تتكلم وهي في صمتها؟ وحتى لو نُقب عنها وأخرجت من ظلام أمكنتها، كانت وهي هناك تبث اشارات تعلن عن نفسها. فالكتابة تحركها الكتابة، ودائماً ما تكتبه نفسها، هو ما يستوجب البحث عنه. هذا النص الذي تكتبه الكلمات هو الذي يبقيها حية ومدار اشتغال.