البناء السيرشعري لـ {شق في قميص العائلة}

ثقافة 2021/10/09
...

  أمجد نجم الزيدي 
هل يمكن أن تُكتب السيرة الذاتية شعراً؟ يحيلنا هذا السؤال إلى التدقيق في مدى صحة الافتراض الذي يقول إن كل نص نكتبه يحمل شيئا منا، سواء قصدنا ذلك أم لم نقصده، وإن كل نص شعري أو غيره، يحمل شيئاً من سيرتنا الذاتية، فالعمل الفني برأي اندريه موروا في كتابه أوجه السيرة (بالنسبة للفنان، قبل أي اعتبار آخر، شيء من الانعتاق
إذ تتراكم لديه خلال مسار حياته عواطف لم يجد لها مخرجاً أو متنفساً في إطار الفعل أو الحركة تنفتح هذه العواطف في داخله فتملأ روحه حد الانفجار. وعندما يحس بالحاجة الماسة إلى تحرير نفسه، يتدفق العمل الفني منه تلقائياً) ص89، وتسمية الفنان هنا تنطبق على الشاعر والروائي وجميع الذين ينتجون فناً إبداعياً، ورغم أن هذه المقاربة تبدو تقليدية، وتقترب إلى أن تكون تعريفاً مدرسياً، يميل إليه النقاد الذين يتناولون السيرة، بوصفها تمثلاً لتلك المشاعر والعواطف، إلا أن التأثيرات النفسية التي تدفع الشاعر أو الكاتب أو الفنان، لا يمكن إنكارها، أو التغاضي عنها، إن حللنا بنية الخطاب الإنشائي لذلك العمل، وإن كانت خاضعة إلى أعراف، أو بناءات خطابية وتشكيلية، فضلا عن أن هيمنة اللغة الشعرية ومساراتها - في النصوص الشعرية- تحدد تلك الانثيالات النفسية والعاطفية، وتضعها ضمن مسارات مقننة، ترسم لها بنية نوعية، ومسارات خطابية.
ومن خلال قراءتنا للمجموعة الشعرية (شق في قميص العائلة) للشاعر كريم جخيور، يمكن لنا تلمس هيمنة البناء السير- شعري على مجمل النصوص، والتي تتوزع بين أربعة شقوق أو سير: ( شق المكان- شق الشاعر- شق الأصدقاء- شق الفقدان) إلا أننا سنكتفي في قراءتنا المقتضبة هذه  بـ (المكان).
نرى في أول نصوص المجموعة (شارع بشار) وهو على اسم أحد شوارع البصرة، ذلك البناء السيري، والذي يتماهى مع دلالات النص، وبنيته التشكيلية، يقسم النص إلى مقطعين غير متساويين، كان الأول مرتبطاً بالشاعر (بشار بن برد) الذي حمل الشارع اسمه، وهو مقطع استهلالي للنص، قد يبدو أنه غير مرتبط بالبنية العامة، التي يعكسها المقطع الثاني، إلا أننا يمكن أن نربطه بها، إن اعتبرناه جزءاً من التعريف بهذا الشارع الذي يمثل ثيمة النص، وحاولنا أن نؤول بعض إشاراته، ونربطها بتلك البنية العامة، وإن كانت بصورة غير مباشرة، لأن كل إشاراته لا تلتقي بأي صورة كانت مع إشارات المقطع الثاني، كما سنرى لاحقاً، إلا في حدود معينة، قد تكون بعيدة، لذلك فسنفترض لهذا المقطع إطاراً دلالياً؛ هو الإشارة التعريفية الساخرة للشارع ومدى ارتباطها بالشاعر، الذي حمل الشارع اسمه: (الشاعر الذي/ كان يؤمن أن يسمع المعشوق/ لا أن يراه/ فيرق له الخافقان/ القلب والكأس/ حين مات مقتولاً/  لم تشيعه/ سوى جارية سوداء/ يقالُ/ إنها كانت تكثر البكاء).
أما المقطع الثاني فنلاحظ أنه يحتفي بسيرة ذلك الشارع/ المكان، ليس من خلال عزله، وتسقط تاريخه فقط، وإنما من خلال دمجه بالحياة، أي إظهاره حياً، سارداً حياته من خلال الحركة الدائبة المتبادلة بينه وبين الآخرين، فإن كان المكان أو الشارع أو المدينة مقترنة بالعزلة لدى أحد شعراء المانيا وهو ريلكه، كما يصفها الناقد سعد البازعي، فإن مكان كريم جخيور مرتبط بالألفة الجماعية، بالتاريخ، بكل ما هو متحرك، سواء كان ذكرى أم واقعاً معاشاً، وهذا المقطع أيضا مقسوم بصورة ضمنية إلى مقطعين أو بالأحرى تاريخين، فالمقطع الأول: (بعد 1250 عاماً/ ارتضى منا أن يحمل اسمه/ أكثر شوارع المدينة شبهة/ النسوة.. يذكرنه باستحياء/ ورجال الدين بجفاء مخادع/ وكان أهل القرى بعد أن يبيعوا بضاعتهم/ من التمر والسمن/ والدجاج والشياه/ يهرعون إليه/ ليروحوا عن بعض متاعبهم/ وفي الحرب،/ كان الشارع ملاذاً للجنود/ المطمئنين إلى فحولتهم).
ولا يفوتني هنا قبل أن أُشير إلى المقطع الآخر، الإشارة إلى فعل (ارتضى) والذي يحمل سخرية مبطنة، وإشارة إلى الافتراق بين الشاعر (بشار بن برد) وما يشير اليه؛ والشارع الذي يحمل اسمه، وهو (أكثر شوارع المدينة شبهة)، فضلا عن الإشارة لبيته الشهير (يا قَومُ أُذْني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ -- وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا) في المقطع الأول من النص (الشاعر الذي/ كان يؤمن أن يسمع المعشوق/ لا أن يراه)، والذي يكشف عمق تلك السخرية المرتبطة بهذا الشارع، والتي يعززها الانتقال في المقطع الآخر، والذي مثل تحولاً في تاريخ هذا الشارع أو سيرته، (الشارع الذي ابتنوا/ على رأسه مسجداً) يعكس انطفاء هذه السيرة الحافلة، وليصبح شارعاً عادياً، لا يحمل سوى تلك الأصداء: (الشارع الذي ابتنوا/ على رأسهِ مسجداً/ ما عادَ تتخاطفه أرجلُ الغرباء في الليل/ ويوماً بعد آخر/ ذبل عطره/ وانطفأت على أسرتهِ الشموع/ صار موحشاً/ وينام بعد المغيب بركعتين).
ولا يهمنا هنا ما يمكن أن توحيه دلالات النص والتي ربما ترتبط بهذا التحول وأسبابه، من خلال الاحالات التاريخية والسوسيوثقافية، فنحن معنيون هنا في البحث عن كيفية تمثل النص للسيرة الذاتية، كنص سير- شعري، واستخدامنا لمصطلح السيرة الذاتية يحيلنا إلى الشاعر، أكثر من إحالتنا إلى المكان، كما أوضحناه في قراءتنا، فأين هو الشاعر في هذا النص؟، أن المكان ليس رسماً جغرافياً مجرداً، وليس وعاءً فقط، بل هو رائحة وملامح وهوية تعلق بالإنسان، لذلك فهو موجود ضمن دائرة متشابكة من العلاقات التي تمثل هوية ذلك الإنسان، أي أنه موجود ضمناً وإن لم يظهر على سطح النص، وهذا التوصيف للمكان وارتباطه بالسيرة ربما ينطبق على نصوص أخرى داخل المجموعة، رغم اختلاف النصوص وبناءاتها كنص (البصرة) ص41، (حديقة أم البروم) ص57، هذه الأمكنة التي وردت بصورة صريحة من خلال تسمياتها المباشرة، مَثلتْ سيرةً خاصةً للمكانِ ومنْ وراءها سيرة عامة ترتبط بالشاعرِ، ولكن يجب ملاحظة أن هناك سلطة أخرى تهيمن على المكان بوصفه تاريخاً وهويةً، فرغم التعاطي الشخصي مع المكان كما في نص (حديقة أم البروم) إلا أنه يأخذ بعداً تاريخياً عاماً، يُخرج هذا المكان من إحالاته المكانية المباشرة إلى بعدٍ تاريخي عام، وهو الذي ربما يَرتبط بنص آخر وهو نص (عراق) ص72، والذي يَرتبط بتاريخِ هذا المكان وامتداده، أكثرَ من ارتباطه بالمكانِ الجغرافي، وربما مرتبط وممثل لهوية الشاعر وتاريخه الشخصي.