تناصات الاستلاب الأنثوي في (ليل صاخب جداً)

ثقافة 2021/10/11
...

 د. سمير الخليل
 
منذ الطاقة الإشهارية والوظيفية للعنوان والاستهلال وحتى ذروة السرد التراجيدي تضعنا رواية (ليل صاخب جداً) للروائية هدية حسين، أزاء واقع اجتماعي يعاني التهشم والأزمات والتصحر على مستوى العلاقات، وتبدو المرأة وهي تكابد الوحدة والنكوص والإحساس بالفجيعة نتيجة الهيمنة والسلطة الذكورية والاستلاب (الأنثوي -السايكولوجي والسيوسيولوجي) الذي يمزق أوصالها ويحيلها إلى ضحية وقربان وأشبه بشجرة تقطعت جذورها مع أرض مقفرة، وتبدو نماذج النساء يأكلهن الفراغ والنكوص والاندثار وتمزقهنّ الكوابيس والاستعباد والمحاصرة وغياب آفاق الحياة وأفول الأحلام ورماديّة الأيام التي تفتقد إلى المعنى وإلى وجود كينونة إنسانية متوازنة. 
كانت الرواية عبارة عن فصول لسردية كابوسيّة ترثي المرأة بكل صورها وهي تحت ضغوط قوّة الرجل وهيمنة الواقع الاجتماعي المتّسم بالعنف والاغتراب والانفراد بها يمحق ذاتها على كل المستويات. 
تبدو بتقنيتها السردية عبارة عن مونولوج وتداعيات حزينة لبطلة الرواية (ياسمين) وهي تعاني الإحساس الفادح بالوحدة والانكسار ولم يبق لها سوى اجترار الذكريات المرة وانسحاقها بفعل خيانة زوجها (مازن).
نجد الرواية قصيدة تراجيدية لرثاء واقع الأنثى المنكسرة وهي تتشبث ببقايا حياة أساسها الموت والوحدة وسلسلة من الخسارات، والرواية ترصد هذه الترسيمة الحزينة لمصائر النساء وتوثق لحظة تاريخية ملتبسة زادت في عمق التأزم ببعده السياسي حين عانى المجتمع في العراق من أحداث الاحتراب الداخلي والصراع الهوياتي لمرحلة ما بعد الاحتلال ومن تجلياته إقدام ابنها رضا على الهجرة إلى كندا والزواج من (آشلي) وتركها وحيدة تعاني الخوف والوحدة والوحشة واجترار الكوابيس على الرغم من أنها شجعته على الخروج أو بالأحرى الهروب. 
تتحول هذه (التشاركية – التعاطفية) إلى نوع من التناصات التراجيدية وتمثل شخصية (سراب) الذات الأنثوية المركزية لتجسيد حجم الفقدان والخراب وتبدأ الرواية بقرار (ياسمين) السفر إلى البصرة حين تلقت دعوة من أخت (سراب) لوجود أمر ضروري يستوجب حضورها وسفرها إلى صديقتها الوحيدة التي تعرفت عليها في مصادفة قدرية في سوق الغزل لبيع الطيور في بغداد، تتشكل هواجس (ياسمين) وقلقها وتداعياتها حول السر الذي تخفيه (سراب).
تقرر ياسمين السفر إلى البصرة وتبدأ رحلة القطار وهي تجتر أحزانها مع زوجها المدمن والخائن وابنها الذي هاجر وصديقتها المأساوية الغامضة وتضع الروائية تناصاً مع رواية تأخذها معها في القطار وهي رواية (فتاة القطار) للروائية (يولا هويكنز) وهناك معاناة تناصية لبطلة الرواية (ميغان) وهي تعاني من الإدمان ومتهمة بقتل زوجها. 
رواية (فتاة القطار) والدفتر السري الذي تجلبه معها من البصرة وهو دفتر اليوميات والاعترافات لصديقتها (سراب) يمثلان عنصرين من عناصر استثمار (الميتاسردي) (الرواية + المخطوط) كنوع من الإحالة السيميائية لتعميق الإحساس بتراجيديا الفكرة وانسحاق الذات الأنثوية عبر الأمكنة والأزمنة والأزمات كل بقعة من الأرض التي تشهد الاستلاب والانسحاق بكل أشكاله ومدياته وتفاصيله. 
تعد شخصية (ياسمين) هي (الإيقونة) المركزية لهذا الانسحاق والاستلاب الأنثوي ولا يعد اهتمامها بالنساء المثليات إلا نوعا من أنواع التجسيد (البانورامي) والتناصي لفكرة نكوص الأنثى أزاء واقع مختل ومأزوم وفاقد لقيم التواصل والتناغم. ولذا نجد أن السرد جاء على شكل (مونولوج) ذاتي وبضمير المتكلم للشخصية المركزية توكيداً للوحدة والعزلة والانفراد وغياب الأنوثة، فالأنوثة تذبل وتذوي في واقع متشظٍ وممزق كما تقول (ياسمين): (مفهوم الأنوثة انتهى بالنسبة لي والعلاقات العابرة لا تغري امرأة مثلي.. ص30). 
حين يحدث الاستلاب الأنثوي يتحول الرجل للند وللذات الصادمة ومصدر الخطر (العاطفي) وقد استطاعت الروائية ببراعتها على مستوى اللغة ومقاطع الاسترجاع (الفلاش – باك) والتوغل في تفاصيل العلاقات أن تنقل ذلك العالم الصاخب من الأحاسيس المتناقضة والتأزم والتكلس الداخلي وموت العاطفة بفعل (الخيانة) و (الإدمان) و (التهميش) و (الاستغلال) وسلب المرأة حريتها وسماتها بوصفها إنساناً وروحاً وليس مجرد كائن (بيولوجي) وحاجة تملكيّة. 
بهذا يتحول الآخر (الرجل) من منقذ ومكمل وحلم إلى مستلب ومنتقم وكابوس لا تجد المرأة أزاءه سوى الانسحاب والتمركز حول الذات والعزلة وغياب العطاء الأنثوي كأوالية دفاعية للحفاظ على بقائها متشبثة ببقايا حياة ذاوية وهي تكابد ليلاً طويلا مليئاً بالرعب والخوف ولعل صديقتها كانت أكثر النماذج تفكيراً واهتماماً بفكرة الموت، فالوحدة والانكسار والهزيمة تنبئ بقرب الموت أو هي بالحقيقة موت بطيء أو موت رمزي، فالأنثى وفق ما تشيعه الرواية مثل زهرة تتفتح في أجواء الحقيقة والنقاء لكنّها تفقد عطرها ونضارتها. 
ونجد ملمحاً سايكولوجيا تكرسه الرواية هو نوع من (الفوبيا) التي تسكن الأنثى بفقدانها الأمان والاستقرار فيتحول الماضي إلى لعنة ومصدر خطر أكثر منه حوادث قد مضت ويصبح من الصعب على الأنثى أن تعيد ترتيب واقعها الاجتماعي وطبيعتها السايكولوجية طالما أنَّ قوانين الواقع – الرجولي – القمعي – الاستلابي تعيد انتاج بقاء التأزم، والصراع وهيمنة قيم الاقصاء والاستحواذ. فيصبح الماضي بؤرة التأزم في ظل غياب أي تطلع إلى مستقبل أكثر إشراقاً، وبذا تبدأ هواجس الاجترار والتآكل الداخلي عند الذات الأنثوية (المستلبة) مثل (ياسمين) و (سراب) و (ميغان) التي تنتهي بالقتل وحتى (مديحة) أخت (سراب) تبدو مستلبة وقد تحولت إلى كائن خانع لارضاء زوجها كطريقة للعيش المسالم، تستعرض البطلة دوماً مصائر النساء وهي تتنقل بين الشخصيات الحقيقية والشخصيات الروائية مثل (ريتشل) و (ميغان) في رواية (فتاة القطار). وكانت رحلة القطار مساحة لاستعراض كل هذا التراكم من المعاناة وغياب الحلم في عوالم النساء.
وهي إشارة يتحول فيها الموت من فكرة رمزية ومعاناة داخلية إلى حقيقة (فيزيولوجيّة) تعبّر عن خواء الحياة بالنسبة للأنثى التي فقدت نسغها وأسرار بقائها ورهانها على الرجل المنقذ وتحوّل صورته إلى النقيض. هذه هي ملامح التواشج السراني بين المرأة وبين سلطة الذكورة وخطورة النسق المصيري الذي يربط بينهما؟!
لم يبق من (سراب) غير دفتر يومياتها السرّي تتسلمه (ياسمين) وتعود به إلى بغداد، وظلت تشعر بالخوف من الاقتراب منه ما الذي تخفيه صديقتها وقرينتها في المأساة من أسرار؟... ورويداً رويداً تكشف لها صديقتها عبر (المخطوط) خيوط الأزمة والمشكلة التي تربطها بزوجها الذي التقته في المطعم وتعلقت به ووصل الأمر إلى الزواج السري.. وتتضامن معه على الرغم من أنها ترفض البقاء ككائن ثانوي مهمش.. لكنها لا تجد سوى الانتظار.
على الرغم من هذا الاستسلام والتشبث لكنّ سلطة الذكورة كانت أعنف وأكثر زيفاً حين تكتشف (سراب) بأن المريض الحقيقي بالسرطان ليست زوجته بل هو وقد سقط ميتاً... وبهذا تدرك أنها كانت ضحية خداعه وعنجهيته الذكورية وتذهب هي ككيان وحلم وتضحيات إلى الخواء والعدم التام. 
في ختام الرواية تضع الكاتبة نهاية بمستوى الشفرة (السايكولوجية) حين تغرق البطلة في كابوس أخير وتتعمق في وحشة ليل صاخب بالحزن والعزلة وأحزان النساء وتحت أنغام وأغاني فيروز كنوع من التطهير (السايكولوجي). 
لم تجد (ياسمين) سوى التوغل في عالم المقبرة ونشوب عتب ولوم وتساؤلات وجودية: عن كل الذي حدث ويحدث من أحزان النساء في مجتمع مأزوم يأكله الصدأ والزيف.. التحول إلى المقبرة وشواهدها وكأنّه مشهد (رثاء) لنهاية الحياة وهيمنة المكان (المعادي) واقصائه للمكان الأليف.. وأقول الحياة الباذخة الأليفة، إنها (تراجيديا) الاستلاب الأنثوي وتناصاته
 الفادحة.