مباهج الوجع

ثقافة 2021/10/11
...

   وجدان عبدالعزيز
 
 الحقيقة التي لا مناص منها أن الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر ماجد الحسن، تُعد إضافة متميزة لرحلة الشعرية العراقية، لاسيما أنها امتازت بالتعبير عن محاولات الشاعر للخروج من دائرة الوجع العراقي، التي باتت دائرة مفتوحة على جراحات إنسانية لن تقف عند حدود العراق، بل تعلن عن حزنها وفقداناتها للعالم أجمع، لكن هذا الوجع تدفق بانسياب على وجه الوجود ليكشف عن خفايا روح الشاعر بلغة تفيض حزنا مثخنا بالجراح والأنين في عالم افتراضي صنعه، كي يرمي فيه نفسه، ويحلق في عالم لغوي، يستحضر فيه الإنسانية المتألمة من الفقدانات، لكنها تبحث عن الحياة وسط هذا الوجع، هذا الهم الشعري الذي حمله الشاعر الحسن يكاد يعبر محلية البيئة، التي نشأ فيها إلى بيئة عالمية، ليكون لافتات احتجاج ضد الحزن والوجع والفقدان، إذ بقيت لغته تحمل لذة المحنة والوجع بمسحة جمالية تجذب المتلقي، ليكون في دائرة التأمل والاندهاش، فلم تكن لغة الحسن ترفا شعريا، إنما رسالة في الرفض والاحتجاج، وهذا يحيلنا إلى موقف فلسفي نشأ بين أفلاطون وأرسطو، فكان أفلاطون يربط محاكاة الفن بنظرية المُثُل، لإيجاد طريقة مقياس للفن، فمثلا الشعر، كان الوزن هو المقياس المناسب، لكن أرسطو يرى عكس أفلاطون أن المحاكاة هي فن بحت، يُحاكي المشاعر، وينبغي للمحاكاة أن تدور حول فعل إنساني، ويبدو أن الشاعر الحسن ربط الشعر بالفعل الإنساني من خلال العيش التام داخل أجواء الوجع الإنساني، لذلك ليس لأي أحد الوصاية على أيّة كتابة تخرج من دائرة الاستعمال العادي للغة، لماذا؟، لأنَّ جمال اللغة شيء واسع، أوسع بكثير مما يتصوره البعض، فلا نجعل أنفسنا أوصياءً على الأدب، كون الأدب حالة جماليَّة مدخرة في أذهان المبدعين، ومن هنا نعيش أجواء الشاعر الحسن الشعرية بقوله ونص (إقامة):
(وهو يرمي ملامحه/ في أزقة كثّة/ ويُمشِّط وحدتها/ النوافذ .../ تَتثاءبُ في عينيه/ والشَّمس تدخن ظهره/ وتلكزه بالشتائم/ اِتّكأ على جدار طاعن/ تُهرول في ذكرياته قطط النحيب).
  هكذا عاش الشاعر أجواء الأزقة الكثة، واستعار كلمة الكثة بقصد الكثرة، وظل تلكزه الشتائم، وما ذكرياته إلا نحيب قطط، وبهذا تلاعب باللغة، وبقي (بينَ أَنينِ الأَزقةِ،/ وبُكاءِ الحُقولِ)، تتصاعد أوجاعه من خلال نص (شارع التربية)، إذ يقول: (رملوا الأسرّة بالندم/ تَركوا البيوتَ للشتائم/ أوهموا الرِّيح بالهديل ... / فراحوا ... يزرعون مفاتنهم/ على شارع لا يَثمر/ بارعون باقتناص المباهج/ جرُّوا خلف عثراتهم ... نهاراً بليداً/ ويوم أشرقت وجوههم بالجوع/ علّموا الواجهات الكسل/ وانطفأوا عند أول جذوة...). 
  مخاطبا زملاءه الشعراء المجتمعين في مكان شارع التربية في العمارة، حين قال: (ويومَ أشرقتْ وجُوهُهم بالجوعِ/ علّموا الواجهاتِ الكَسلَ/ وانطفأوا عندَ أولِ جذوةٍ...)، كونهم (يَزرعونَ مَفاتنَهم،/على شارعٍ لا يَثمرُ/ بارعونَ باقتناصِ المَباهجِ)، فلا جدوى من اقتناص المباهج، وهم يعيشون البحث عن حقيقة وجودهم وسط حرمان يصل حد الجوع إلى صناعة سعادة موهومة، وبمغايرة اللغة والتلاعب فيها يحاول الشاعر الحسن صناعة جمال في اظهار وجعه، وجعل هذا الوجع والفقدان إلى فعل إنساني يؤثر بذات المتلقي الباحث عن حقيقة أخرى، أو أنه يقف موقف المحلل، أي المتلقي، لعلّه يصل إلى كنه منحى الشاعر في هذه المتاهات الموجعة، كذكره للقذائف أدوات الحروب ووجع الفقدان، ويعمق هذا في نص (ساحة الماجدية) بقوله: (بيوتها تَتكئُ على بعضها/ وهي آيلة للدموع/ ويوم غدت كحبال غسيل/ بيدين من قصب تهش نباح الثِياب/ وعلى نهر عاطل/ راحت تُجفّف البكاء/ وتسيح من طرقاتها..)
   عمق الوجع هنا من خلال البيوت الآيلة للدموع، لكن ثبتَ الدموع بالنهر العاطل غير القادر على تجفيف البكاء، لكن رؤية تقول لا بد من مواصلة الطريق، فقد يكون هناك بصيص أمل في نهاية نفق الوجع التليد، هذا الوجع الغائر في أعماق تاريخ الشاعر السومري الميساني، وظل يجر أذيال المسافات على (رصيفٍ....عانسٍ/ يَتّسعُ ليلُهُ لنُحولِ الرَغيفِ)، لكن الشاعر الحسن يحتفظ بالأمل والأحلام في نص (القرية)، إذ يقول: (أعرفُ أنكِ تنتشلين وجعي/ هذه نبوءتُكِ تفيضُ رؤى/ وحشداً من الطفولة .../ تَستيقظ في الخُطوات/ خُطواتُك مَوجٌ .../ يلاحق يقظتي/ وهي مُكتظة بالأحلام). 
  لذلك حاول أن يعيش في دائرة معالجة أزمة الوجع بأسلوب لغوي مغاير في إدارة بؤر الصراع والتوتر، ليحرك ذهن المتلقي في المعالجة واتخاذ القرار في الحل، وكان نصه (مرأب) يحمل هم الوصول بقوله: (نَلكزُ ظَهرَ الريحِ،/ تَتساقطُ البَراعةُ/ ها قَد وَصَلنا/ تَشتبكُ الحقائبُ/ لهاثُنا.../ أيامُنا الخاملة)، وبصعوبة يقطع لهاث حروف كلمة (ها وصلنا) بقوله: (هـَ . ا . قَ . دَ . و . صَ . لْ . ن . ا !)، ليعلن هنا صعوبة التغلب على الوجع السومري التليد في الشخصية العراقية، (وعجيب ذلك الإنسان، إنه مخلوق لاتقف رغباته عند حد وهو لا ينفك يسعى إلى التسامي ويهفو إلى الأفضل والأحسن.. فهو لا يقنع بادراك الأشياء ومعرفة الموجودات والأحداث المحيطة به، بل يستشعر في الادراك ذاته لذة ويتذوق المعرفة خالصة عن كل ما يتعلق بها من أهداف عملية، وهو لا يكتفي بتذوق احساساته وانطباعاته عن الأشياء، بل يضفي عليها من خياله ما يكسبها كمالا وجمالا تستجيب له نفسه بالرضا والسرور، وعندما تمتلأ نفسه بشعور البهجة يصف كل ما يرضي إحساسه وخياله بالجمال) ص26، ويبقى الشاعر ماجد الحسن يصنع بهجة الجمال الشعري من خلال الوجع.. وكما قلت شكلت أعماله الشعرية الكاملة في مجلدها الأول، إضافة شعريّة متميزة لرحلة الشعريّة العراقية بإرهاصاتها الإنسانيّة..