التدويني والشفاهي العمق والتسطيح

ثقافة 2021/10/11
...

 حميد حسن جعفر
 
أولا: يبدو أن الثقافة المعرفية التي يتمتع بها المبدعُ -أيًّا كان مجاله- رغم تداخل الفضاءات، واتكاء البعض على البعض، وظهور حالات الاحتضان أو التناص، حتى غابت الخصوصيات -كحالة ابداعية- أمحتْ حالات الانفراد وليس التفرد بالنص ليحل محلها الانفتاح، الذي دفع بالمبدع الى أن يدخل مناخاتٍ قد تبتعدُ او تقتربُ من أهم اهتماماته، وليجد نفسه بعيداً عنه، أو قريباً مما كان بعيدا عليه، هذه الثقافة دفعت به الى أن يحاول أن يصنعَ قارئه، لا أن يمسكَ بالقارئ، محاولاً امتلاكه رغم اختلاف المرجعيات المعرفية، فالمبدع بات خالقاً للنص، وخالقاً للمتلقي.. المتلقي الذي لم تعد القراءة وحدها كافية لمنحه حق امتلاك المعرفة رغم تفوق عملية القراءة على عملية الاستماع، التي كثيراً ما حاولت أن تُبسِط نفوذها وسط فضاء التدوين. 
إن التحريف -تلك العملية الهدامة- كثيراً ما وجدت نفسها تتفاقم وتتسع تحت ظل التنقل الشفاهي للمعرفة/ المعلومة، بعيدا عن ذاكرة الكتابة، والتي قليلاً ما تفقد حقوقها/ قوة المرجعية بنقل الماضي وإعادة خلقه وسط تدابير الحاضر بعيداً عن النسيان والاستغفال التي تمارسه ثقافة ما قبل ظهور القصبة والكتابة واختراعاتها (منذ الكتابة على ألواح الطين، مروراً بالبردي والورق وانتهاء بالمطابع والشبكات العنكبوتية).
الكاتب اليوم ليس معنياً بالبحث عن القارئ الجاهز، لما يمتلكُ من أوليات قد تكون صادرة من وضع مضاد/ قارئ ماضوي/ تقليدي عبر صحبة المتحدث الأب أو غير مستعد لتقبل ثقافة اللحظة الراهنة، مما قد يتحول هذا القارئ إلى الضد/ التصادم، فهو كثيراً ما يؤكد المدون على ضرورة التقدم، أو التنازل، على ضرورة الاقتراب من الكتابة التي هو منتجها، والمستهلك/ القارئ الذي يجب أن يغادر القراءة السلبية غير منتجة للحوار أو الجدال، إلى الاستقبال المحكوم بالمناورة والمحاكمة، فإذا ما كانت القراءة خاضعة لفضاءات متعددة، قد تكون المتعة وقتل الوقت/ تزجيته من هذا القبيل، فإن المتلقي وفضاءه واقعان تحت سلطة التغيير، والتبدل، وخلق حالة من عدم الرضا، فالقارئ يتقبل كل ما تطرحه مفردات النشر من (رسائل ومذكرات، قصة، رواية، سحرٍ وشعوذةٍ، أبراجٍ وكلمات متقاطعة، ألغاز، أو مواقع انترنيت، كتب نقدٍ ودراسات ونظريات ثقافية موضوعة ومترجمة، وصراعات وهلم جرى)، رغم ان المتلقي واقع تحت هذه الخيمة أو تلك، ولكنه لن يتخلى عن (فكر ووعي وادراك ومعرفة واختيارات وكل ما يمكن أن يقع تحت عنوان الذخيرة)، كل هذا لإزاحة ما تراكم من غبار على جسد الكلمات، لتخرج بهيئة من غير أن تقع وسط استهلاك متعجل. 
ثانيا: المتلقي وفق تصور وذهنية المبدع هو منتجٌ ثانٍ، قادر على الإضافة، والإزاحة بعيداً عن حالة الامتصاص الآلي. المتلقي هنا قارئ يمتلك امتيازا ثقافياً يمنحه البحث والفرز فهو ليس بالعادي الذي لا تشكل القراءة لديه حالة استثنائية، أي تحوله إلى متلقٍ فاعل. 
القارئ غير المهتم بغواطس النص من الممكن أن نسميه بالقارئ غير المكترث بما تنضحُ الكتابة الجديدة، إنه المبتلع للنص بعيداً عن الهضم والتمثيل، لذا نراه يشكو من عسر الهضم، وصعوبة في الفهم، وهزالاً في المعرفة، أو ما يمكن أن يسمى هكذا قارئ بالأعزل الذي حاله حال الجندي عندما يُدفعُ به الى ساحة المعركة/ المعرفة، من غير بندقية/ كتاب، واذا ما حمل البندقية فإنه غير عارف/ عالم بتفاصيلها، واذا ما عرف فإنه سيكون كمن نسي جعبة عتاده في الناقلة التي رمت به في الأرض الحرام، من ثم سيكون هذا القارئ/ الجندي غير المسلح/ الأعزل عالة على النص/ المعركة، إن عدم اكتراث القارئ بالنص -لا بسبب التعالي عليه بل لعدم قدرته على السير بمحاذاته، أو امتلاكه لمفاتيح تفكك مغاليقه- لا تمنحه هذه الحالة سوى فضاءً رمادياً/ ضبابياً، يحيله لوضع غامضٍ، أو ملغز، وبذلك يتحول هذا القارئ الى -سرير بروكتس- يحاول أن يصنعَ نصاً وفق مقاسات وتصاميم لا تتسمُ إلّا بانعدام الحدود والمقاسات، وكذلك بالجهل وانعدام المعرفة.
ثالثا: صحيح من واجبات المبدع أن يحترمَ المتلقي/ المقاتل، وبالمقابل على هكذا متلقٍ أن يكون ممتلكاً لأدواته القراءاتية/ القتالية، كالبناة من الفلاحين حين يخططون لصناعة الفردوس، فالصناعة لا تأتي على طريقة -علاء الدين والمصباح السحري- بل إن آليتها تتطلب الكثير مما تتطلبه آليّة القراءة، ولذا فإن الفلاح المهمل كالقارئ المهمل، كلاهما لا ينتجان إلّا ما يحاذي، أو ما يكنز إلّا الفراغ، وبذلك تخسرُ الأرضُ فلاحها، الذي من نوع -التنابلة- الاتكاليين، ويخسر النص قارئه الذي هو من نوع الجندي غير المسلح.
البعض من أنصار الماضي ممن يتصف بشيء من الراديكالية يعمل وبإصرار غريب على أن يطلب من المبدع عامة أن يكتب النص الذي يهتز له الآخرون، وهذا النص -والقصيدة خاصة- كثيراً ما دفع بهؤلاء لمحرقة الحروب، على طريقة الشعراء المجندين/ العسكريتاريين، وليس النص/ القصيدة التي تنتشله مما يحيط به من مياه آسنةٍ وتماثيل لمرجعيات سياسية وحزبيةٍ/ ثقافية يحتلها النمل الأبيض، متصوراً أن التشكيل والكتابة عامة والقصيدة خاصة، التي لا يهتز لها لا تنتمي للإبداع - وكأن الأمر لا يعنيه بالمرة- ولكن خوفه من تغيير مواقعه التي تشكل جزءاً من سلطة توفر له حالة من استقرار يبعده عن اشكالات الحياة خارج تأثيرات الوظيفة، قلق رضا أو عدم قبول رأس السلطة لا الفعل الثقافي هو الذي يتحكم بمواقفه -رضا القائد من رضا الله- البحث عن قانون يوفر له الهدوء والاستقرار، فالكتابة التي لا تعتمد عواطفه ومواقفه، هي التي لا تعتمد تجميل الواقع، تجميل قباحات السلطة الحاكمة، نصوص السلطة لا تعتمد على إنشاء وتشييد ما يشكلُ حالة فكرية قادرة على تغيير الافكار، وتجاوز الثوابت، نحو نوعية أفضل ودفع الراكد وصولاً لعدم الالتفات الى الوراء -بغضب- إذ إن النص/ القصيدةَ لم تعد بياناً يلقى وسط حشود الجماهير لحثها على دخول الحرب أو الاحتفاء بميلاد القائد، وما على الشعراء والادباء والمؤسسات الاعلامية إلّا أن يركبوا القطار/ الموجة، وعربات النقل المصفحة ليجدوا أنفسهم مدفوعين الى حيث خط الشروع لمعركة ما.
الرفض هو رفضُ الواقع وعدم القبول بالمألوف والدعوة للتغيير، إن -غورنيكا- بيكاسو ليست هي حالة صامتة يرسمها سواه، بل هي صرخة، وان نصب الحرية لجواد سليم ليس كمية من النحاس المصهور يشكل لدى سواه فاكهة ما تحت عنوان -حياة صامتة- فالنص الحديث/ المعاصر الذي طلقَ المألوفَ بالثلاث، لا بد له من أن يتجاوز فكرياً طروحات وطموحات النص في بدايات نهوضه.
إن تعدد زوايا الرؤية والافكار وطرق طرحها وتناولها لا يمكن لكل متلقٍ أن يستقبلها مجتمعة أو متفرقةً إلّا وفق ما يمتلكُ من معارف وعلوم وأفكار، البعض يحاولُ أن يذبح النص من علبائه، او خنقه، ليبعد عن نفسه الشبهات، ومن ثم إلغاء تبعات عدم الفهم على النص المغتال. إن محاولة سحب النص من مكتبات المتنبي ودفعه نحو مكاتب جميلة و -چنابر- الأرصفة، ماهي إلّا محاولة ابتزاز ظاهر، أو اصطياد سمكة صناعية لا تحفل بطعم يقدم لها، والذي لم يكن في يومٍ ما سوى غذاء زائف، أو طعام بلاستيكي كاذب.