شروخ نفسيَّة لا يُعالجها تغيير المدن والبلدان

ثقافة 2021/10/13
...

 محمد تركي النصار
قصيدة (المدينة) لكافافي ثيمتها تطرح سؤالا عن إمكانية الإفلات من تعاستنا بتغيير المدن والأماكن، فالهجرة والتحول الى أماكن أخرى قد يُهيئان لك فرصة التغيير لكن هذا لايعني تغييرا نفسيا ينقذك من متاعبك ومشكلاتك، فلكي تتحرر كليا من هذا عليك أولا أن تغير نظرتك للحياة من الداخل وليس بتغيير المدن والبلدان.
تبدأ القصيدة بالتركيز على كلام المخاطب: أنت، ومجهولية المخاطب هنا توحي بأن كافافي يتحدث الى نفسه في محاولة لخلق حوار يخفف من عبء الضغط النفسي والصراعات الداخلية التي قد تكون أسبابها غامضة وغائرة في طبقات الذهن والنسيج النفسي العميقة.
يصور المقطع الأول من القصيدة مايحدث للمتكلم الباحث عن الهروب من مآزق حياته والذي يلقي باللوم على المدينة التي يعيش فيها وكأنها هي السبب في شروخه النفسية، ويجيب المقطع الثاني مبطلا هذه المعالجة المشوشة، إذ يقول بأن المدينة ليست لها علاقة بهذا الإحساس الكئيب بالضياع بل الناس الذين يقعون في شراك التوهم والتصورات الخاطئة:
 
قلت: سأذهب إلى بلد آخر، 
ساحل آخر،
سأجد مدينة أفضل.
فكل ما أحاوله هنا ينتهي الى الفشل
قلبي هامد مثل جثة 
ولم أعد أقوى على الصبر 
إذ أرى روحي تتمزق هنا 
فحيثما نظرت أو توجهت 
أرى أطلال حياتي السود
وسنواتي الضائعة انتهت الى حطام 
 
واحدة من التقنيات التي يستخدمها كافافي في هذه القصيدة هي استخدام شخصية غير محددة الملامح، فالمتكلم في المقطع الأول يؤكد بأنه سيفعل كل شيء من أجل الانتقال إلى مدينة أخرى، وشك المتحدث يظهر بأنه لايملك فكرة  واضحة عن خطة الهروب المزمع القيام
 بها.
فقدان التحديد والتخصيص جعل كافافي يفكك جدل المتحدث عارفا بأنه فاقد لثقته غير الواضحة عن الهروب، تقنية أخرى يستخدمها كافافي وهي غياب الترابط بين أجزاء الجمل، ففي المقطع الأول يؤكد المتكلم بأنه أضاع ودمر سنوات طويلة من حياته مستعرضا قائمة من الخسارات، نقص استخدام أداة الربط (و) مثلا تبين بأن هذه القائمة لم تنتهِ بعد، مايعني أن بطل القصيدة من الممكن أن يبقى ينوح نادبا حظه العاثر في هذا
 المكان.
بطل القصيدة لايبدو مكترثا إلّا بفعل واحد وهو التحرك الى بلد آخر لكنه غير عارف بالوجهة التي سيقصدها، فالمهم هو الإفلات والهروب من هذه المدينة.. لكن ماتنطوي عليه هذه العبارة من عدم تحديد قد يتضمن نوعا من التبرم والغضب الانفعالي كذلك وهذا يخلق توترا دراميا للنص. 
ثمة محاولة لاظهار الأفكار الداخلية للمتحدث بحوار مريح يتوفر على درجة من التفاهم بين الأنا والأنت اللذين يشيران الى الشاعر نفسه، ويبدو بطل القصيدة في حالة صراع وندم، وصوت كافافي لايريد أن يكون هنا خشنا أو قاسيا كما في معظم قصائده التي تتميز بالهدوء وتحاشي القسوة على الذات أو الآخر.
في المقطع الثاني نرى مايشبه الإجابات عن تساؤلات وهواجس المتحدث في بداية النص، إذ يؤكد كافافي (بأن هذه المدينة ستظل تلاحقك) أي ان تغيير المدينة سوف لايفضي الى حل والمشكلات ستبقى هي ذاتها لأنها ذات طبيعة ذاتية داخلية روحية لاعلاقة لها بمعطيات خارجية.. والبيتان الأخيران يمثلان جوابا من الشاعر لبطله.. (بما أنك حطمت حياتك هنا فهي حطام أنى رحلت في هذا العالم):
 
سوف لاتجد بلادا جديدة 
ولا ساحلا آخر.
فهذه المدينة ستظل تلاحقك
وستمشي في الشوارع نفسها
وتشيخ في الأحياء ذاتها
ويصبغ شعرك الرماد
في البيوت نفسها.
ستجد نفسك دائما في هذه المدينة 
لا تأمل بمعجزات في مكان آخر 
فلا سفينة لانقاذك، لا طريق
وطالما أنك خربت حياتك هنا
في هذه الزاوية الصغيرة
فهي حطام أنى ذهبت
في هذا العالم. 
 
عليك أولا معرفة سر تعاستك وتغيير رؤيتك للعالم واذا شئت المزيد من المتعة والسعادة انطلق بعد ذلك سائحا مبتسما يطوف بين المدن والبلدان.