الحضور القلق

ثقافة 2021/10/19
...

  د. نصير جابر
 
الرواية الأولى الناضجة التي اقتنيتها بعد أن شعرت أنني تجاوزت مرحلة قراءة الكتب والمجلات والجرائد المرتبطة بعالم الطفولة والمراهقة كانت (شجرة اللبلاب) للروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله (1913 - 1970) التي تحولت فيما بعد إلى مسلسل شهير حمل الاسم نفسه ومازلت أتذكر حتى الآن انبهاري الكبير بلوحة الغلاف الخارجية إذ بقيت أقلب الكتاب متأملا وجه تلك المرأة الساحرة التي لها ملامح واضحة حاول الرسام تضخيمها وإظهارها بأجمل صورة ممكنة، هذه المرأة سأراها لاحقا في رسومات أخرى كثيرة على أغلفة كتب نجيب محفوظ ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم واحسان عبد القدوس وخيري شلبي وغيرهم، ومن ثمّ   في عدد لايحصى من (إفيشات) الأفلام السينمائية -المصرية خاصة-  الدعائية التي كانت الوسيلة الوحيدة للإعلان عن الأفلام في ذلك الزمن وظهور المرأة على أغلفة الكتب أو الملصقات الإعلانية يبدو في كثير من الأحيان اعتسافا لمضمون الكتاب أو الفيلم الذي قد تكون أحداثه بعيدة جدا عن اللوحة الخارجية لكنه ولأسباب ترويجية يضطرّ صناع هذه اللوحات إلى حشر المرأة بوصفها عامل جذب مؤكد وحقيقي  معه (المنتجات) تنفد بطريقة أسرع وتغري قرّاء أكثر!!
وهذه الجزئية التي لا شك ولا ريب أنه قد تناولتها واقتربت منها أقلام أخرى لكنها تظلّ من وجهة نظري تحتاج إلى مزيد من التأمل والغور الآمن في خفاياها؛ لأنها ظاهرة تتوالد مع كل موجة معرفية أو تقنية وتؤسس في كل مرّة لخطاب جديد يحتاج منا أن نقف عنده بكثير من الحياد والموضوعية والجديّة حتى نمنع أي تطرف مقصود أو غير مقصود يطول مكانة المرأة وقيمتها الاعتبارية من خلال عرضها بصورة قد لا تليق بها أبدا.
إنّ رفض تسليع المرأة مبدأ إنساني لا يمكن المساومة عليه  وخيار وجودي لكلّ من يحترم ذاته، وهذا التسليع قد يكون واضحا جليّا وقد يكون تلميحا أو إشارة اتصالية ملغّزة  محرّضة لنظرة دونية تدفع بالآخرين إلى تبني وجهة نظر محرّفة ومشوهة عنها.
وقد يرى بعضهم أنّ هذا القول فيه مبالغة وتضخيم لأن المرأة جزء من الحياة ووجودها في أي ملمح إشهاري ضرورة  بوصفها الهاجس والمشكلة والحلّ في آن واحد، فما المانع من حضورها من دون كل هذه الشكوك والتهم التي تطول هذا الحضور..  
وهذا القول يمكن أن ينقض بردٍّ واحدٍ لا غير وهو: أن الضابط هو طريقة العرض فهي الأساس الذي يمكن أن نشير به أن ما يبدو أمامنا مجرد غلاف لكتاب هو قضية تسليع تامة الأركان مع لحاظ أن الحيز الفكري يتغير دائما، فما قد يبدو تسليعا في السبعينيات قد لايكون كذلك الآن؛ لأن الحاضنة القامعة الضاغطة هي التي تقترح نوع التسليع وطريقته وهي بالضرورة تختلف من عهد لعهد ومن ثقافة لأخرى مثلما ستختلف قراءة العين الفاحصة الراصدة لهذه الظاهرة. وفي عالم اليوم الذي تزاحم فيه الصورة اللغة وتحاول أن تبعدها عن حيز التأثير خاصة بعد أن سيطرت وسائل التواصل على الحياة وأحكمت قبضتها القوية على عقولنا، وصار من الصعب أن تمرّ لحظة من دون صورة تبرق في (الهاتف) أو (الحاسوب) أو (الفضائيات) هذه الصورة التي قد تحمل داخلها قضية مهمة ضد المرأة لكن الزخم والكم والاعتياد يجعل من هذه القضية تمرّ لتتحول إلى بديهية لا تقبل الجدال.. ولكننا يجب أن نقف عندها ونجادل من أجل مكانة المرأة وقيمتها
العالية.