الفُرَص

ثقافة 2021/10/20
...

 محمد صابر عبيد
 
يجري الحديث كثيراً عن موضوع الفرَص التي تتاح أمام الإنسان، وثمة من يعرف كيف يستثمرها فيربح وثمة من لا يحسن ذلك فيخسر، واستثمار الفرَصة التي تتاح للإنسان تحتاج إلى ذكاء ووعي وسرعة بدهيّة وخبرة وحساسيّة ونباهة خاصة، كي يرى الفرَصة جيّداً ويعرف حدودها ومكوّناتها ومرجعيّاتها وأفضل كيفيّة لاستغلالها على النحو المطلوب والمناسب، لأنّ رصدها يمثل أوّل مظاهر تعيينها والعمل على التقدّم نحوها وسحبها نحو دائرة الضوء الخاص لإمكانيّة التقاطها وتسخيرها لصالحه، إذ هي بحاجة إلى أدوات عمليّة ضمن حراك خياليّ مناسب وجهد ذهنيّ محدّد ورغبة جامحة واندفاع محسوب، وذلك لجعل الظروف المحيطة بها على أعلى درجات الاستعداد لقنصها والإفادة منها أقصى الفائدة.
تتحرّك في هذه المساحة الرؤيويّة مجموعة من المصطلحات الإجرائيّة التي تصف الفرَص وتصنّفها بحسب نتائج العمل عليها، ويمكن معاينة مصطلح «استغلال الفرَص» بوصفه أكثر هذه المصطلحات رواجاً وحضوراً في شتّى مناحي الحياة، إذ يتمّ العمل على الفرَصة المتاحة وسحبها إلى حيّز الذات الفاعلة وتحقيق النجاح في ذلك، حين يجعل الإنسان من هذه الفرَصة وسيلة لإنجاز مكتسبات جديدة لم تكن في الحسبان قبل ظهور الفرَصة، لتكون نجاحاً إضافياً يولد فرحاً خاصاً ما كان له أن يتحقق من دون العثور على الفرَصة أولا، ورصدها على نحو مثاليّ ثانياً، ومن ثمّ القدرة على استثمارها واستحصال نتائجها الإيجابيّة في نهاية الأمر، بحيث يصبح النجاح في استثمار الفرَص نوعاً من البراعة والنباهة والذكاء الميدانيّ العارِف، القادر على استحضار الجرأة والقوّة والإقدام في الوقت المناسب والتصدي للفرصة بأكبر قدرٍ من الاحتواء والفهم، ومن ثمّ تحويلها إلى مكسب أكيد وأصيل ينضاف إلى حقل المكاسب المهمة في الحياة ويضاعف من مفهوم النجاح في الحياة.
ثمّة من يُدرَج هذا المفهوم في محورِ آخر يمكن وصفه بـ «تضييع الفرَص» حين تُتاح فرص ذهبيّة أمام شخص معيّن وهو لا يراها لضعف في بصره وبصيرته، فإما أن لا يلتفت إليها كما يجب، أو يهملها لعدم إدراك قيمتها، أو لا يدرك تماماً أنها تعني له الكثير فيعبر من فوقها، وبما أنّ الفرَص لا تتاح كثيراً ودائماً فإنها حين تضيع لا يمكن تعويضها، وتكون من الخسائر الكبرى التي يندم عليها صاحبها حيث لا يفيد الندم.
تعد الشعوبُ الأكثرُ تطوراً وتحضراً وتمدناً الأكثرَ حظاً في استثمار الفرَص كاملة وعدم فقدان أيّة فرصة، بينما تتخصّص الشعوب المتخلفة بضياع الفرَص وفقدانها لأنها لا تستطيع أن تضعها في موازينها الصحيحة والمناسبة والضروريّة، ولا تمنحها من العناية ما تستحق بحيث تدرك قيمتها وتضعها في الموضع الذي تستحق من العناية والعمل، وعلى الرغم من أنّ هذه الفكرة قد تبدو بسيطة ولا علاقة لها بتحضر الشعوب أو تخلفها، غير أنّ رصداً دقيقاً لتجلّيات هذه الرؤية على صعيد المقدمات والنتائج تؤكّد تماماً علاقتها الوطيدة بثنائيّة التحضر والتخلف، فالمتحضّر لا يترك أيّة فرصة مهما كانت صغيرة كي يُعلي من شأن فعاليّاته المتحضرة لأنه يدرك حاجته لها، في حين يهمل المتخلف أكبر الفرَص وأغناها لأنّها لا تعني عنده شيئاً؛ فالأشياء لديه متساوية ولا قيمة لها.
لا تقف الفرَص عن حدود استغلالها على الوجه الأكمل بل هناك من يجتهد في خلق الفرَص واستنباطها من جوف المستحيل، ويمثل هذا النشاط النوعيّ الخلاق أبلغ درجات الاستثمار حين ينجح المرء في خلق الفرَص التي يحتاجها على وفق قدرات استثنائيّة خاصة، يتجاوز فيها عتبة انتظار الفُرَص عابراً نحو العمل على إنتاجها بما يتوافق وحاجاته، وعندها يرتقي في سلم الإنجاز نحو أعلى درجة على النحو الذي يسخر كل شيء لبلوغ المجد في عمله والارتقاء به إلى مراتب عليا، وهذا يندرج في جوهر فكرة التحضر التي تنهض أساساً على تنشيط آليّات الانتباه وشحذ قواها ورفعها إلى مستوى فائق من الدقّة والرصد والإيجاد.
لا بدّ في ستراتيجيّة العمل على استثمار الفُرَص من توفير الاستعداد الخاصّ بتطوير الإمكانات وتحفيزها باستمرار، بما يجعل تجلّيها أوفر حظاً وأكثر احتمالh وأيسر حصولا، وإلا فإنّ هذه الفرَص لا تتاح لأيّ كان بالبساطة التي قد يتوقعها المرء وكأنّها هبة مجانيّة من السماء، في حين أنّ الفرَصة حين تتاح لشخص من دون آخر فهي تتاح بناءً على شبكة من المقوّمات والأسس والاستعدادات، لذا فقد يحظى بها من وفر لها سبل الحدوث والوضوح والإمكان وصار من حقه الاندفاع نحو استثمارها والإفادة منها، أما من يقضي الوقت بانتظار الفرَص بلا جهد يتحرّك بهذا الاتجاه فهو من تفوته الفرَصة ولا يراها، بالمعنى الذي يجعل من هذا المفهوم مفهوماً متحرّكاً يستجيب بقوّة لمكتشِف هذا المعنى، إذ على الرغم من أنّ معنى «الفرصة» العميق كامن في حدود اللفظ غير أنّ اكتشافه داخل حيّزه المكانيّ يظل بحاجة إلى مُكتَشِف، يعرف هذا المعنى ويتحسسه ويراه بعينٍ رائية حادة مدرَّبة وخبيرة، بوسعها وضع اليد الكاشفة مباشرة على مكمن الضوء الدلاليّ والضغط عليه كي يضيء بأقصى ما ينطوي عليه من طاقة، من دون تلكؤ أو قلة ثقة أو احتمال أو انتظار أو خوف أو ريبة؛ بل بثقة مطلقة وعزيمة وبسالة وبهجة لها صلة ومعرفة قويّة بهذا الإنجاز
المشعّ.