الجسد الغربي ينسلخ عن مجتمعه

ثقافة 2021/10/21
...

 وارد بدر السالم
 
في تقديمه لكتابه أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، يقرر عالم الاجتماع الفرنسي دافيد لو بروتون بأن وجود الإنسان هو (وجود جسدي) وتقع مناظرته في هذا الكتاب في منظور أنثروبولوجي واجتماعي، عبر الجسد البشري وبعض عناصره؛ فهو (سلك ناقل) كمرآة لأي مجتمع. تنعكس عليه الصور. وبما أنه لكل مجتمع درايته وطريقته، ضمن رؤيا العالم؛ في تعريف الجسد، والوقوف على مكوناته، وفهم تعابيره، ورؤية اتصالاته بمن حوله خارجياً وداخلياً، فإن العديد (من المجتمعات لا تميز بين الإنسان وجسده) لا سيما في المجتمعات «التقليدية» التي دأبت على أن تعد الجسد ضمن المفهوم الإنساني المتوارث، تقاليدَ وبنية اجتماعية، من دون النظر الى أسراره ومكوناته وعناصره، لكن (الجسد الحديث) الذي مر بتطورات تاريخية وتباينات أنثروبولوجية، فهو يتضمن (انقطاعاً بين الشخص والآخرين. وبينه وبين الكون، وبينه وبين نفسه) والمقصود هنا هو الجسد الغربي، بحداثته الجديدة، وهو (علامة الفرد، ومكان اختلافه وتميزه) لكنه في الوقت ذاته (منفصل عنه) حيث أصبحت (الأنا) متمركزة فيه، أكثر من أي شيء آخر. ويعيب لوبروتون على المجتمعات الغربية الصناعية، فردانية الشخصية وفردانية الشخص المنسلخ عن المجتمع.
يأتي على تفكيك المنظومة الجسدية في حوارات معرفية ومصدرية معها، بشواهد أنثروبولوجية وأدبية وفنية وتاريخية وفلسفية وعلم- نفسية؛ لتوثيق نتائج البحوث المعنية وإشهارها برؤية جديدة، تأخذ في الاعتبار النظر بين جسد تقليدي ضمن مجتمعات تقليدية، وجسد حداثي أعقب الثورة الصناعية الغربية. ويرى بأن كل تصور اجتماعي عن الجسد بوضعه في إطار (الرمزية العامة) لتكوين صورة أخرى عنه، تحليلاً وتأويلاً ومعرفةً وتطبيقاً، لتحديد موقعه وسط (بيئة الجماعة البشرية) هو (معرفة ثقافية) بالإجمال، فالجسد (بناء رمزي) ومفهومه (إشكالي وغامض) لهذا انتشرت النظريات والمعارف والتحليلات المتعددة بشأنه. ومن الطبيعي أن الباحث لا بد أن يستعين بالحكايات والأساطير ومصادر البحث عن ماهية الجسد الإنساني وألغازه، التي تقدّم سيرة شخصية للجسد، عبر عناصره المتعددة، لاسيما الوجه (رمز الشخص) و(عاصمة الجسد) فالولادة الفردية الغربية (تطابقت مع ارتقاء الوجه) كون الجسد في المجتمعات الغربية (من النمط الفردي) ويعمل (كقاطع للطاقة الاجتماعية) عكس المجتمعات التقليدية التي يعمل فيها الجسد كواصل (لطاقة الجماعة) أي خلو تلك المجتمعات من «الأنا» الغربية المفردة، وتتعطل الأنا الفردية في محيط الجماعات التي ينتمي الجسد اليها. وهي المجتمعات التقليدية.
 
الجسد الشعبي وجسد القديس
ثمة أجساد يمكن لنا أن نطالعها في هذا الكتاب، تتعلق بالجسد وتصنيفاته والظروف المحيطة به، فالجسد المسجون ليس هو الجسد الحر، والجسد المديني ليس هو الجسد الشعبي، الذي كان خليطاً (مبهماً) من التقاليد الشعبية والمصادر الفولكلورية. وعلينا أن نلاحظ أن تصنيفات الجسد الشعبي «الغربي» تدخل في إطار العزل الجسدي المديني، فلكل جسد إمكانياته في التعبير عنه. وكل فرع له مميزات وسمات، لا تتشابه. فالجسد الشعبي المحكوم بالتقاليد الاجتماعية والأعراف الرسمية، يتحرر في ظروف معينة. بل (يؤسس قاعدة الانتهاك ويؤدي بالناس الى التحرر من الغرائز المكبوتة) والمعنى أن الجسد الشعبي المثقل بالتقاليد، يمكن له أن يتحرر في مهرجانات اجتماعية، إذ (لا يوجد أي انفصال بين لحم الإنسان ولحم العالم). 
 
اكتشاف الوجه وتشريح الجسد
واحدة من المفارقات التي جذبت فناني القرنين الرابع والخامس عشر، هي رسم الوجه الشخصي (بطريقة بليغة) كبداية رمزية لتجسيد الفردية في عزلتها عن جسدها. ربما صار ثمة تلميح الى (صعود الإنسان المنغلق في جسده) صعود الفردية ونموها الحتمي. الوجه الذاتي المنفصل عن جسده. بعيداً عن الرسم المحاط (بشخصيات سماوية) وأصبحت العيون (الأداة المفتاح للإحساس بالحداثة) في رمزية الوجه المستقل والأكثر خصوصية في الجسد. فهو واجهة الشخص وجماله. والفردية المنتزعة من الجسد الاجتماعي، وهذا الشروع الفني للوحة الوجه المنفرد، فتح المجال للصورة الفردية في فوتوغرافية الهويات الشخصية التي قد نكون نحتفظ بها حتى الآن. ومع الفردية الغربية ونموها التي جسدتها لوحات الفنانين، عبر الوجه؛ ارتبطت بأسماء فنانين وشعراء في تلك المرحلة التي تم انتزاعها من الزمن الوسيط. دانتي وبترارك. وكان عصر النهضة الإيطالي يشهد صعود رجال مشهورين من الشعراء والنحاتين والعلماء والفلاسفة وهذا التجسيم الفني- الفردي الذي عبّر الفن عنه، أتاح للوعي الفردي أن ينفرد بمعطياته الجسدية، فالتعريف الحديث للجسد (يتضمن أن يكون الإنسان مقطوعاً عن الكون، مقطوعاً عن الآخرين، مقطوعاً عن ذاته. فالجسد هو ما تبقى من هذه الانسحابات الثلاثة).لم تكن لوحات الوجه تشريحاً بيولوجياً، لكن يمكن اعتبارها فصلاً قسرياً عن الجسد لتحقيق الفردانية الشخصية. ومع الاعتراف بأن الإنسان لا ينفصل عن جسده، كانت التشريحات الطبية في القرون الوسطى وعصر النهضة، تعد انتهاكاً للجسد، فهو (ثمرة الخلق الإلهي) وكان الجسد (يكثّف الكون) فالتشريح مورس سابقاً قبل العصور الوسيطة كما يبدو. وما عاد (الكمال البشري) قائماً، غير أن العصور التالية، وجدت في الكمال البشري تعدياً على الخلق الإلهي. حتى فيسال العالِم المجتهد في هذا العلم كان يتردد (على المقابر والمشانق ليزود نفسه بالجثث التي يحتاج اليها للقيام بتشريحاته السرية) وبذلك جعل الطريق سالكاً وممكناً، ليجعل من انسانه المشرّح اعلاناً لولادة (مفهوم جسد) في عملية التطهير التشريحي التي كانت تكتنفها صعوبات كنسية واجتماعية. ومن ثم ولد إنسان الحداثة كـ «انسان مقطوع عن ذاته» وذلك بين القرنين السادس والثامن عشر. حينما فتح علم التشريح باباً واسعاً لفتح الجسد الإنساني. لكن ومع القرن السابع عشر بدأ انقطاع مع الجسد في المجتمعات الغربية، فهناك (جسد فائض) وديكارت يشبهه بـ (الآلة) ويجرد الخيال (من كل امتيازاته) ليؤسس نظرية الحيوان - الآلة، من دون أن ينتبه الى أن (الجسد مكان الموت في الإنسان). حتى الجسد المهزوم في الشيخوخة له آليات معينة وحدود قريبة من الموت؛ فالشخص المُسن يحمل جسده (كوصمة) حسب وضعه الاجتماعي ومحيطه اليومي، وتكون أجساد الشيخوخة (تائهة في الحداثة)، وهذه الأجساد المهزومة (لا نعرف ماذا نصنع بها)، ومن ثم يتلاشى التاريخ الشخصي تحت وطأة الأمراض (ولم يعد فاعلاً) بانتهاء وظائفه، ليصبح المسن شخصاً آخر، لا علاقة له بالشخص الأول الذي كان عليه قبل سنوات. لنجد أن عصر شيخوخة الجسد يضمحل بالتدريج، وبالنسبة للمرأة فإن عصر الإغواء والإغراء قد انتهى. فالجسد الزمني فيها توقف الى حدوده القريبة من الموت، وهو (السقوط في الجسد) مع الزمن المتعاقب، وما حمله الجسد من أوزار وخطايا وإنهاكات عملية، أحالته الى تجاعيد وهموم وانتظارات قاسية، ليكون في النهاية رمزاً ذابلاً من رموز الإنسان الذي انفرد في عزلته، مؤذناً برحيل جسده، الذي هو، وتصوره الشخصي، الذي كان عليه، وما يزال حتى انطفائه الأخير.
 
• أنثروبولوجيا الجسد والحداثة - ترجمة محمد عرب صاصيلا - مجد - المؤسسة الجامعية للدراسات ط2 1997)