عُشبة المسرح بين الاختباء والاختفاء

ثقافة 2021/10/21
...

 د. أحمد شرجي
 
أول درس تعلمته من المسرح الهولندي، من خلال اقامتي واشتغالي فيه ممثلا، بأن العرض المسرحي ليس منبرا سياسيا، بل منصة جمالية وإنسانية، والانساني ضمنا يكون ذا بعد سياسي او يتحرك في المضمر السياسي، لكن ليس بالضرورة تسييس العرض المسرح لتمرير خطابنا الانساني والجمالي، بل تجميل وآنسنة خطاب العرض كعتبة اولى، وليس العكس، ولهذا تطور المسرح في البلدان الأخرى لأنه يحتفي بالإنسان الكوني بعيدا عن جغرافية ضيقة او يدين سياسيا فاسدا هنا وهناك، أو جهة او دكتورا محليا،  بل يُصدر أنموذج البطل الذي تجد له مقاربات في الكثير من الثقافات والمجتمعات كما دكتاتورية رتشارد الثالث، او موقفا إنسانيا مهما لبروميثوس الذي سرق النار وانزلها إلى الارض من اجل عامة الناس، او الموقف الانساني الكبير لاوفيليا وحبها الطاهر لهملت، وعذرية وطهرانية قصة حب روميو وجوليت التي تحدت سلطة العائلة، وغيرها الكثير. المسرح ليس منبرا سياسيا، واذا أردنا ان نجعله كذلك علينا أن نتوجه للأحزاب والاعلام واصدار البيانات، وعندها سيكون خطابنا السياسي أكثر تأثيرا وأهمية، انتهى زمن المسرح (الشعاراتي) مع اهل الشعارات والتعبويات، لا بد ان نبحث عن مسرح يبقى راسخا في ذاكرة المجتمع ومؤثرا فيه. لماذا نحملُ المسرح كل خيباتنا السياسية؟ لم يخبرنا التاريخ المسرحي بأن هناك عرضا مسرحيا غير نظام سلطوي في بلد ما، ولكنه محرض عضوي ولكن ليس على طريقة الخطابات السياسية والساسة، ولكن بطريقة هنريك ابسن الذي أسهم بتسليط الضوء على الحياة الزوجية الفاشلة وتحول المرأة إلى دمية  في مسرحيته
(بيت الدمية). 
وأثار العرض الكثير من الجدل الاجتماعي لزيف الحيوات الاجتماعية للمرأة داخل البيوت، وكذلك في مسرحيته المهمة (عدو الشعب) التي كشفت اللثام عن لعبة الديمقراطية.. هذه النصوص/ العروض بحثت في بنية المجتمع، العلاقات الانسانية وتحولاتها، قهرها الاجتماعي والذي حتما أحد أسبابه السياسية وتداعيتها، ولهذا حملت هذه العروض عُشبة خلودها الاجتماعي، لأنها اثرت داخل مجتمعها والمجتمعات الاخرى التي عرضت فيها، لم تحمل هوية جغرافية ضيقة، ولا مشكلة بيئية بحت، بل أبعاد إنسانية، اجتماعية تجد مقارباتها داخل الكثير من المجتمعات رغم اختلافها الثقافي والعقائدي. هذا ما يجب التفكير به من قبل المسرحيين، ان لا يحولوا خشبة المسرح إلى منصة سياسية، ولا شعارات ولا خطابات عاطفية، بكائية استجدائية، لا بد أن نفكر بمسرح يثير الاسئلة ولا يطرح أجوبة، مسرح يقلق نوم المتلقي ويحوله إلى عقل تفكيكي، مسرح يحمل جينات عشبة الخلود، مثلما بحث جدنا كلكامش عن عُشبته، لعله يعيش ابد الدهر، ونحن احفاده نبحث عن عُشبة العرض المسرحي الذي يبقى حيا داخل المجتمع، مؤثرا، ينبض بالحياة في العقل الجمعي، ظلت فكرة البحث عن الخلود عبر عُشبة جدنا ابد الدهر، بل اصبحت مثالا لإيجاد الكينونة الابدية، فهل فقد المسرحيون (عُشبة) خلودهم، عُشبة الدهشة والتأثير بسبب الاختباء خلف الخطابات السياسية والعروض المستوردة، ومن ثم استنساخها وتقديمها كتجارب أصيلة؟ هل نُحملُ المسرح كبتنا السياسي، ولهذا يكون العرض ما يشبه البيانات الحزبية؟، لماذا غادر العرض المسرحي الخشبة؟ واصبح عبارة عن (اسكيجات) بصرية ومجموعة مونودرامات يلقيها الممثل امام المتفرج في مقدمة المسرح وكأننا في مسرح القرن الثامن عشر عندما عُد التمثيل في مقدمة المسرح منجزاً في تلك الفترة.. وفي زمن ما بعد التغيير 2003 في العراق، ذهبت اغلب العروض المسرحية إلى المستهلك والاستجداء العاطفي للجمهور، وكثيرا ما نسمع الجمهور يردد كلمة (الله، الله) وكأننا في حفل شعري، واصبحت الكثير من العروض بما يشبه الخطابات السياسية، وكأننا نحتاج من يشير إلى خرابنا السياسي والذي نعيشه بشكل يومي!!، أضعنا عُشبة مسرحنا ولا نعرف أيّ مسرح نريد في هذا الزمن المتسارع بأحداثه وتحولاته الاجتماعية والصحية والسياسية والاقتصادية؟
فهل ابتعد المسرح عن ثقافته الحاضنة؟ أم أنه اثقل  وتطرف في بيئيته؟ أم أن عدم قدرة المتفرج على تفكيك شفرات العرض سببا في قطيعته؟ أم ان سطحية العروض سببا في ابتعاد المتفرج؟، كل ذلك أسهم بفتور العلاقة بين العرض المسرحي والمتفرج، كل ذلك اسهم بفقدان عُشبة رسوخ العرض المسرحي داخل المجتمع، طالما هناك عروض مسرحية تعتمد على البنيات السطحية، والكلائشية والمكرر والعادي، عروض تفتقر في أغلبها إلى الغوص في البنيات العميقة للمجتمع وتحولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، المسرح لا يحتاج إلى خطب سياسية ليكون قريبا من المجتمع، بل يحتاج إلى عقل جمالي واعٍ يستفز المخيلة ويثير الاسئلة، حتى يرتقي بالمجتمع.