تعدُّ منطقة أو ضاحية الكرادة الشرقيَّة، التي تقع جنوب مركز العاصمة بغداد، من أرقى وأجمل المناطق في الوقت الحاضر لما تمتلكه من مقومات عمرانيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وكذلك عمق تاريخي يمتدُّ الى عهودٍ سحيقة جداً، وشواخص قائمة فيها ولما تضمه مساحة أرضها من تلال وآثار قديمة لم ينقب عنها حتى الآن.
كل هذا دفع بمجلس {الشعرباف الثقافي}، الذي يقع مقره فيها لتكريس ندوته نصف الشهريَّة الأخيرة لتسليط الضوء على لمحات من تاريخ وتراث الكرادة الشرقية الذي هو جزءٌ لا يتحزأ من تراث بغداد.
فقد استضاف المجلس للتعريف بها الباحث صادق جاسم الربيعي الذي ألقى فيها بحثاً بعنوان (لمحات من تاريخ وتراث الكرادة الشرقية) نحاول عبر هذه السطور تقديم ملخصٍ لما ورد فيه.
في بداية بحثه سلط المحاضر الضوء على تسمية هذه الضاحية الجنوبيَّة الجميلة للعاصمة، مبيناً أنَّ {تسميتها تعود لكثرة (الكرود/ الچرود) التي كانت قائمة فيها وتقع على نهر دجلة فيها لسقي بساتينها الكثيفة المثمرة، وهي واسطة لنقل الماء من بئر تستمد مياهها عبر ساقية من دجلة، وعمل هذه الواسطة يشبه الى حدٍ ما آلية عمل النواعير التي تجرها الحيوانات التي كانت سائدة الى ما قبل أكثر من نصف قرن مضى لري البساتين والحقول الزراعيَّة في العراق، قبل استبدالها بالماطورات والمكائن الحديثة التي تعمل بالكهرباء أو بالوقود}.
وحدد الربيعي مساحة الكرادة القديمة من شمالي ساحة النصر حالياً الى نهاية منطقة الجادريَّة، حيث يلتف النهر حولها ليحولها الى شبه جزيرة، بينما كانت تتبع لها مناطق إداريَّة شاسعة منها مناطق بغداد الجديدة والغدير وزيونة والمشتل والعبيدي وغيرها، فضلاً عن مناطق الزعفرانيَّة وجسر ديالى وسعيدة والرياض والتويثة ومعسكر (الهنيدي/ الرشيد)، إذ كان يتبع ناحية الكرادة الشرقيَّة وفق إحصاء العام 1957، قرابة (45) قرية زراعيَّة ومنطقة سكنيَّة، وكانت تتبع لها أيضاً جزيرتا أم الخنازير والسندباء الواقعتان وسط نهر
دجلة.
وأوضح المحاضر أنَّ {المرحوم الدكتور مصطفى جواد قد أشار في بحثٍ سابقٍ له الى أنَّ (الكرد/ الچرد) يعني العنق، والظاهر أنَّ أصله ما يسقى به الحيوان عن طريق الدلاء (الدلو) للاستسقاء}.
بينما بين المرحوم الدكتور أحمد سوسه في أصل هذه التسمية بقوله: (ولما كان أهل الكرادة يسقون مزارعهم، بالكرود سميت المنطقة بالكرادة..) وجاء كلام الدكتور سوسة هذا منشوراً في دليل المملكة العراقية الصادر في العام 1936.
وأشار الى أن (الچرود) المنصوبة على نهر دجلة بداية القرن المنصرم تمتدُّ من الباب الشرقي شمالاً حتى قرية سعيدة جنوباً، وبلغ عددها (108) چرود، وعدد البكرات (250) بكرة، خاصة إذا ما علمنا أنَّ عموم بغداد يضم (ألف) بكرة، وهذا يعني أنَّ الكرادة الشرقية تضم ربع ذلك العدد.
وبين أنَّه لا يعرف الوقت بالتحديد الذي شاعت فيه تسمية الكرادة على هذه المنطقة، وهي ليست تسمية قديمة لها، إذا ما عرفنا أنَّها كانت تسمى بساتين أو باب أو قرية (كلواذا).. ويذكر بعض المؤرخين أنَّ من تسمياتها القديمة أيضاً (تابوت التوراة) وهي المدينة التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من نهر دجلة، وكانت فيها سوقٌ كبيرة عامرة تسمى (سوق الثلاثاء) بقيت قائمة حتى بدايات العصر الإسلامي الأول.
وكانت {كلواذا} مكونة من ست قرى زراعية كبيرة هي (ياري، والفرك، وبنا، والزعفرانية، ودما، وكاره) واستمر اسم كلواذا سائداً الى ما بعد سقوط الدولة العباسيَّة عام 656 هـ، وكان باب بغداد الجنوبي قائماً حتى بداية القرن العشرين وكان يسمى {باب كلواذا}؛ أي مدخل الكرادة وبساتينها الغناء.
والكرادة الشرقية من ناحية التقسيمات الإداريَّة هي مركز ناحية تابع لقضاء الرصافة، وتبلغ مساحتها بحدود (67200) دونم وتنقسم لعدة محلات ومناطق تحمل تسميات محلية متعارفاً عليها، وتتبع لها ايضا (45) قرية زراعيَّة حسب إحصاء العام 1957 في أواخر العهد الملكي. وتتكون كل منطقة من عدة محلات وشوارع وأزقة (درابين)
منها:
الزوية: وهي المنطقة المحصورة بين مرقد سيد ادريس حتى مدخل بناية جامعة بغداد، ومن محلاتها الجادرية التي كانت بستاناً واسعاً وينسب الى أسرة (آل الجادر) أو لشخص اسمه (قادر/ جادر) هو المالك الأصلي لذلك البستان الذي كان يقع مكان (جامع الحاجة سعده) والذي قضمه العمران وأصبح أثراً بعد عين.
وحسب مذكرات الشماس فرنسيس جبران الذي مرَّ ببستان الجادرية عام 1911، قال عنه معرفاً: إنه يشتهر بزراعة نبات (السوس) ونباتات أخرى..
وأشار الباحث الى أنَّ الحكومة قامت في العام 1926 بتقسيم أراضي الزوية الى بساتين مشهورة سجلت بأسماء أصحابها التي منها: بستان الحاج ناجي الكرادي (اللامي) الذي أصبح في زمن الاحتلال البريطاني مديراً لبلدية الكرادة بتوصية من (المس بل) سكرتيرة دار الاعتماد البريطاني في بغداد والتي كانت تربطها بالحاج ناجي علاقة ود ومعرفة حيث كانت تتردد عليه في بستانه بالجادرية في أوقات معينة بواسطة حصانها.. وكذلك بساتين الحاج حمود، والدركوزي، والبكريون، والسادة، والسراجات، وهاشم السنيد، وعيسى الخليل، وجميل الوادي، وناجي الخضيري وبيت غربي، وبيت النقيب، وبستان أم الورد
وغيرها..
واستعرض الربيعي تفصيلات عن محلات ومناطق الكرادة الأخرى مثل: البو جمعة، والبو شجاع، والجسر والسهلاوي، والبتاويين، والسعدون، والسبع اقصور وابو اقلام وخربندا والعلوية وارخيتة وشارع العطار وشارع المختار، وسدة ناظم باشا، والسيد ادريس، وشارع آل مباركة، وشوارع اسود واصفر والعميان وهويدي، والبوليس خانة، وشارع الكنيسة، وشارع هنيدي، وشارع عباس الديك (المصارع الشهير) وغيرها الكثير..
ثم قدم استعراضاً لأسماء محلات وشوارع وأزقة الكرادة، وأبرز العشائر التي سكنتها بحكم عمل أبنائها في الزراعة والذين استقروا فيها، حتى بعد انحسار بساتينها بفعل التطور العمراني المتلاحق الذي شهدته بعد انتهاء آخر فيضان كبير أغرق بغداد عام 1954، إذ كانت بساتين الكرادة معرضة للغرق جراء أي فيضان سابقاً.
واستعرض الربيعي في محاضرته أيضا أبرز الجسور التي شيدت على دجلة ضمن رقعة الكرادة الجغرافية منذ الفترة العباسيَّة حتى اليوم، وكذلك أشار الى معظم مقاهيها القديمة بالأسماء، وتطرق الى التطور السكاني الذي شهدته المنطقة، وتحولها بمرور الزمن الى واحدة من أرقى ضواحي بغداد السكنيَّة والتجاريَّة والصناعيَّة والسياحيَّة.
وبعد أنْ أنهى المحاضر محاضرته انهالت عليه المداخلات والتعقيبات من المشاركين في الندوة الذين أثروا البحث بفيض معلوماتهم وتصويباتهم القيمة.