«يوميَّات كوفيد - 19» حنون مجيد يلتقط الأحداث بحساسيَّة دقيقة الصور

ثقافة 2021/10/31
...

  جمال العتابي
هل أراد حنون مجيد أن يعالج موضوع الحرية المحكومة بالقدر المجهول والملازم لحياة الإنسان؟، في يومياته الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2021، أم أنه أراد أن يقدم عملاً يشكل صدى عميقاً لكاتب رفض الاستسلام للمرض، في معركة تستنزف المرء، لكنها في النهاية تبدو كمتعة ومعاناة معاً. كما يقول (هرمان هيسه): استمتعت كثيراً بمرضي، هنا يتحول المرض إلى طاقة جديدة، ومتعة يوظفها هيسه إلى فعل حيوي وإيجابي، في القراءة والكتابة. 
وعلى الرغم من أن حنون مجيد كتب (يوميات كوفيد- 19) خلال فترة قصيرة، إلا أنه قدم لنا مشاهد سينمائية متحركة ومنطلقة من عدّة أبعاد وزوايا، وتشتغل على مستويات واقعية، وميثولوجية، وخيالية، بشكل متماسك ومترابط مع بعضه، هذه المشاهد 
أثارت فينا فاعلية الجدل، واقتحام القناعات التي كانت متأصلة 
فينا، فهو يلتقط الأحداث بحساسية دقيقة الصور، والأكثر صميمية وشمولية في حياة الآخرين.
 منذ الزيارة الأولى للطبيب يؤمن مجيد بأن غرفته التي اختارها للحجر ستكون وسيلته إلى أحد سبيلين، القبر، وهو على شفا حفرة منه، أو الحياة، وكلفتها شاقة، لا يعرف مقدار المسافة إليها، فيجد ضالته في (غربال الروح)، مختارات من غزليات ورباعيات جلال الدين الرومي، ثم يأخذ زمام المبادرة من نيتشه ليتكلم مع زرادشت، فيتوقف عند الأفكار المتعانقة والمتجافية، المتفقة والمتناقضة، ليكتشف الدهشة والإثارة واللذة في الأفكار، في لغة عاتية وغريبة، وآراء غامضة وجلية، متناسلة مشحونة، بالعتمة، والجنون والعقل.
حنون مجيد يغوص في موقع، مهما كان صغيراً، عسى ان يسعفه في مقاربة مع مرض نيتشه، يتلمس من خلاله واقع إنسان، وأبعاد هذا الواقع مع الآخرين، ليطرح السؤال المتسلل من الأعماق، وهو لا يمتلك اليقين 
التام، عن درجة أثر المرض الذي صاحب حياة هذا الفيلسوف، في تلوّن أفكاره، وظلاميتها، وتأرجحها، بين الرقة والقسوة، بين اللين 
والعنف.
  لم يكن مجيد الكاتب الأول أو الوحيد الذي كتب يومياته وهو محاصر بالمرض، فالأدب العالمي والعربي قدم لنا نماذج عديدة منها في السرد، أو في الشعر، تلك التي تناولت موضوعة الأوبئة، لتتحول إلى تقليد أدبي سائد في الكتابات الأدبية، وتناول عدد من الروائيين والشعراء قصصاً إنسانية، لمحاصرين، أو ناجين من الموت، الأمثلة في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة، ورواية (استئصال)، للروائي المغربي طاهر بن جلّون، ورواية (الرمز)، للبرتغالي سارماغو، و(الطاعون)، للكاتب الفرنسي البير كامو، ورواية ايبولا 76، للروائي السوداني أمير تاج السر، والرواية الأكثر انتشارا (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز.
حاول الكاتب أن يخلق نوعاً من التفاؤل، ورسمه على نحو مقنع، وسط أجواء سوداوية ومتناقضة، فكانت اليوميات أقرب كثيراً إلى الوقائع الحادة، ولا أعتقد ان خيال حنون ذهب بعيداً ليكتب رواية عن تلك الوقائع، فاكتفى بطرح الأسئلة والأجوبة معاً، وهي جديرة بالانتباه لكونها تفتح أمامنا نوافذ جديدة، تعرفنا على طبيعة الذهنية التي تحتاج الإصغاء إليها، وتشكيل موقف منها، ذلك أنها تعرفنا على حقيقة ما يجري، كيف يفكر العقل المبدع، والدارس، والمثقف بالمسائل التي تدور حوله وتحاصره. إن انموذجا من الحوارات يقوم بها حنون، وهي حوارات ثرية، تعمق صلته بنفسه، وبالآخر المكتنز بالمعرفة والرؤى من جهة 
أخرى، وتحقق تفاعلاً حضارياً مع العقل الثقافي الراهن، وصولاَ الى قيم إنسانية وثقافية متجددة دائماً. 
لذا فهو يتساءل: هل المرض هو الوجه الأبيض للموت، لأنه يرقق القلوب، ويدني المسافات، ويُسمعك من حلو الحديث ما لن تسمع إن طواك؟ أعتقد ذلك. 
قاص وروائي مثل حنون مجيد، تتدفق معه اليوميات بومضات، ثم يستغرق وقتاً لتتخذ شكلها النهائي، نتابع كيف تتحول العلاقات في غرف السجن الضيقة، الى علاقات جميلة، تنسي الهموم، تغطي أحياناً في إنسانيتها على العلاقات ذاتها في الأماكن الطليقة، ورغم ما يبعثه المرض من آلام وتحول في الجسد، فإنه يجد في قصيدة سعدي يوسف يا شط.. عسى أنك، ما ينسيه محنته، ويقوي مناعته ويشد من مقاومته، ويضاعف في عزيمته، ويمضي قدماً مع روح القصيدة الغنّاء.
القراءة تمد الكاتب بالعافية، رغم المحاصرة، تجد الآراء حية ويقظة، وغنية في عمقها، وتحسسها، وانفتاحها على الأصدقاء، اذ تتكشف المواقف لديه، وتثير تداعيات عالية الصدق، كانت لحرارتها تستدر دموع الكاتب، انها البيئة الأفضل كما يرى حنون التي يحصل فيها على الاطمئنان.
صور ومشاهد كثيرة، تختصر الشعور بالتضامن البشري، مع الإنسان الذي لم يفقد الأمل بالحياة، وهو في قلب المأساة. الخروج من النفق المظلم الى حيث منابع النور، بفضل هذا الفعل الإنساني 
الرفيع الذي شمله به الأصدقاء، بلا استثناء.
الكاتب حنون مجيد أمدّنا بمعرفة عدد من المبدعين، وقرّبنا إلى عوالمهم، وإلى خصوصياتهم، علي جواد الطاهر في (سغب العواطف)، وفروخ فرخزاد وأشعارها، وهي الأشهر بين النساء في تاريخ الأدب الفارسي (ماتت في حادث سيارة، عام 1967، وهي في الثانية والثلاثين، ولم تحصل على مباركة رجال الدين أثناء حياتها، وعند موتها). 
ولأن مجيد موهبة أصيلة وغنية ومعطاءة، نجده كذلك في هذه اليوميات يحقق حضوره الإبداعي، ككاتب دقيق في تأثيره، عميق في أبعاده، ممتع أمام 
أبصارنا.