جينالوجيا القباحة

ثقافة 2021/11/02
...

لؤي حمزة عباس
تشكل جينالوجيا القباحة جزءاً أساسياً من التاريخ الثقافي للإنسان، وهي التي منحت الإنسان جانباً مهماً من تصوّره عن نفسه وعن العالم، فالقباحة لا تنغلق على نفسها ضمن مجموعة من المفاهيم والتصورات الخارجية، بل تتسلل إلى ذواتنا لتسهم بإنتاج تصوراتنا عن أنفسنا وعن فضاءاتنا الاجتماعية والثقافية، وهي بتصور غريتشن إي هندرسن في كتابها (التاريخ الثقافي للقباحة، المدى 2020) {طالما طرحت تحدياً للذوق والمفاهيم الجمالية، وشغلت الفلاسفة وأغضبتهم، وأضافت بعداً معقداً على الأسئلة بشأن وضع الإنسان والعالم الواسع الذي يعيش فيه ويتفاعل معه}، إن التاريخ الثقافي للقباحة مساحة مهمة من تاريخ الذوق والتحضر الانساني، وقد شهد عصوراً من التجارب والاختبارات التي قرّبت مفاهيم وموضوعات عدت (جميلة)، وباعدت أخرى بعد عدها (قبيحة)، حتى لتكاد تكون المسافة بين معياري الجمال والقبح مسافةً لعمل الذوق العام في جانبه الاجتماعي، وقد أسست تصوراته على مفاهيم متضادة عملت على إنتاج أحكامنا الجمالية واختبار معاييرنا وهي تقرّب موضوعات وتباعد أخرى، وتضيء وتعتم، إنها أكثر من ثنائية متضادة، فالقباحة والجمال أشبه بمنظومة النجم التوأم، حيث يدور كلُّ نجم منهما في حقل جاذبية الآخر، وإذا دققنا النظر في موضوع القباحة أمكننا رؤيتها درجة (دنيا) في سلم الجمال ومعاييره ونظمه، وهو ما حدّد تصوراتنا عن الوجود وتصنيفاتنا للموجودات، مثلما أسهم بتوجيه حواسنا وهي تستقبل الأشياء والموضوعات، فالشمُّ واللمسُ والذوق والنظر تقف على درجة واحدة من الأهمية في تقييم موضوعة الجمال والقبح والتمييز بينهما، ليكون هذا التمييز عنصراً جوهرياً من عناصر البحث الثقافي، العناصر التي تحيا ضمن مجال سوسيوثقافي واسع تشغله منظومة القيم القارّة في تقاطعها مع تجربة الوجود، لذا لن يكون غريباً، مع حركة منظومة القيم، أن يرتقي فهمنا للقبيح إلى درجة تجعله قادراً على التعبير عن مدلولات واسعة، لينتقل في مجالات الثقافة والإبداع المختلفة السردية منها والشعرية، فالمراحيض مثلاً بوصفها موضوعاً (قبيحاً)، قادرة على التعبير عن مضمرات أفعالنا اليومية، إذا ما وجّهنا حضورها الثقافي وجهة مغايرة، ليكون موضوعها عندئذ حاملاً سيرياً بمقدوره أن يحكي حكاية الإنسان من دون أن تستحوذ مخاوفنا من القبيح على ما يحمله من قيم سلبية، المخاوف التي طالما حافظت على مكانتها في توجيه الذوق العام حتى أصبحت آيديوجيا مرعبة، كما في حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث لاحق النازيون ماعدوه "تأثيرات منحطة"، لا في الفنون البصرية فحسب، بل في الموسيقى، حيث اندمجت مضامين القباحة مع الصور النمطية للجماعات الثقافية. إن موضوع القبيح واحد من الموضوعات الحساسة في مجالنا المعرفي، وهو بحاجة لمراجعة فاحصة لموقعه في منظومة القيم التي توجّه وعينا وتحدّد سلوكنا.