غربة أم بلورة للذات وصناعة حياة؟

منصة 2021/11/06
...

 حسن خيون *
في العام 2005، وتحديدًا في 2 حزيران، بعد إنهاء الامتحان النهائي للسنة الرابعة والأخيرة في كلية الفنون الجميلة – فرع الإخراج المسرحي، إذ حصلت على درجة البكالوريوس بتوفق، وكنت من بين عشرة طلاب هم الأوائل على الدفعة، إذاك توفرت لي فرصة للسفر الى أوروبا، والتي كانت بمثابة انتقالة مهمة ومحورية على المستوى الشخصي، تزامنت مع استعدادي الكبير للانفتاح أكثرعلى العالم.
 
هذا الاستعداد ينطوي على اتخاذ قرارات، اعتقدتُ أنها ستشكل لي إضافة نوعيَّة، أو نافذة أطلّ من خلالها على التجارب العالميَّة المعاصرة للمسرح، قريباً من مبدعيها، والتي ستوفر لي فرصة للانخراط والدخول في قلب الحدث الفني، يساعدني على خوض التجربة الشخصية، وعلى تحمّل نتائجها، منطلقاً من إصراري على الثوابت التي أؤمن بها والتي أسعي لتطويرها لتكون فكرًا ونهجًا خالصُا لا مستنسخاً، ونتاجاً هو حصيلة منطقية لتسع سنوات من الدراسة ما بين معهد الفنون الجميلة، وأكاديمية الفنون الجميلة من جهة، والعمل المبكر داخل الوسط الفني العراقي على مستوى المسرح والدراما التلفزيونيَّة، والإذاعة كذلك.
كانت فرصة السفر قد شملتْ ايضا بعض الأصدقاء الذين دارت عليهم رحى الأيام، أحيت فيهم طباعاً وتلاشتْ طباعٌ، لكنها في النهاية فرصة حقيقيَّة، لأنها تحققت في فترة حرجة ومربكة من عمر العراق الحديث، أي بعد الاحتلال بعامين فقط. لقد رُشِحنا من قبل (محترف بغداد المسرحي) والذي لولاه ما كان ليتحقق هذا السفر، أو ربما تأخر كثيرًا، أو أنه لم يحدث قط. لقد كانت هذه الفرصة بمثابة تجربة مهمة، بل هي طفرة نوعية على الصعيد الحياتي والمهني على حدٍ سواء.
بالنسبة لي لا أسمي هذه التجربة (غربة) مطلقاً، بغض النظرعن فكرة البقاء التي استمدت أهميتها من القراءة المنطقيَّة الواعية لمستقبل البلد، والذي كان قد وُضع حينها على رمال متحركة، كان قرار البقاء صحيحاً بل وضرورياً بغض النظرعن تدخل الداعم لي على اتخاذ هذا القرار، والمساند والمشجع إيماناً ودراية في أنَّ فترة الهدوء النسبي في بغداد لن تطول، كنت أرى أنَّ خيطاً رفيعاً، وترقباً حذراً بين ما قد يتصورهُ العقل لحدثٍ قادم، وأنَّ الحلم في التغيير لن يتحقق، لقد آمنت في تلك الأيام أنَّ سماسرة الحروب وتجار الدم لن يسمحوا بانتشار سقوط بقعة ضوء على هذه المساحة المنكوبة.
لقد أردت البقاء في أوروبا لأستنشق هواء الحرية، ألامسُ سقفها العالي، فكانت النتيجة حياة فيها صورة الحلم، ومنجز فني إنساني، وتواجد غني يسير في منطقة هي ما بين العقل والعاطفة، وجود يرضي النفس بعيداً عن الأنا المتضخمة، التي لبست البعض والمتخفية خلف أقنعة ناعمة لكنها حاسدة وناقمة. 
لقد كان هذا الترشيح، هو النواة، أو البوابة التي استطاع الدخول من خلالها عددٌ من الزملاء والأصدقاء والأساتذة، حتى الوصول الى برلين، فكانت التجربة استثنائيّة عبر كل مفاصلها ومنهاجها التنظيمي والتطبيقي العالي المستوى، وأيامها التي تجاوزت الـ ٧٠ يوماً، رغم بعض الإرباك نتيجة بعض الأمزجة، لكني أجد الأمر بديهياً، وليس غريباً على مجموعة ومختارة من الفنانين لكل منهم مخزون فكري وعطاء ومزاج وهوى.
لقد تم الترشيح واختيار الفنانين المشاركين من قبل محترف بغداد المسرحي الذي يترأسهُ الفنان عزيز خيون والفنانة د. عواطف نعيم، وهو فضاء تجريبي تأسس في العام ١٩٩9، مشروع يؤكد أهمية التمرين والابتكار وصولاً الى العرض، كذلك فرقة (فضاء التمرين المستمر) للأستاذ الفنان د. هيثم عبد الرزاق والفنانة د. إقبال نعيم ، ومن الجدير بالذكر أني كنت أحد المجموعة المؤسسة لفرقة فضاء التمرين المستمر على مستوى الممثلين ونتاجها المسرحي الأول (أعتذر أستاذي) الذي حصل على أفضل عرض جماعي في الدورة السادسة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.
تم التنسيق وبشكل مباشر مع الراحل المخرج د. عوني كرومي المبتكر والمشرف على «مشروع بغداد - برلين»، فضلاً عن الجانب الألماني المتمثل بمسرح الرور عبر مديره الفني المخرج المسرحي ذي الأصول الإيطالية روبرتو تشولي، الذي يعدُّ من أبرز المسرحيين المعاصرين، ناهيك عن الجهات والمؤسسات الألمانية الداعمة والمانحة. هناك كانت البداية وبعد حين تعمقت وترسخت في بلجيكا.
لقد كانت حياة جديدة، وبداية مثمرة على الصعيد الإنساني والعملي التخصصي، حياة ورحلة عذبة لا تخلو من الصعاب والإخفاقات والنجاحات، الدراسة والبحث وإتقان اللغة والإنجاز، لقد تعلمت هنا أنْ تَعشقَ وتُعشقَ سيكون لك حياة مختلفة وجديدة، سيكون لك محطات تلتقي فيها الآخر، بأفكاره، بلونه المختلف، بلغته، عقيدته، أسلوبه وطريقة إدارة حياته، لهذا كانت تجربة العيش هنا، انعطافة مكملة لفكر شاب، إنسان متمرد وغير كلاسيكي لا يهوى العيش في فضاء تسوده خطابات الدين المتشنج، والتي بدأت بالظهور بشكل مفاجئ، غطت المشهد حتى وأخفتْ كل ما هو جميل وطبيعي وطليعي في المجتمع العراقي.
الغريب حقاً، وبعد كل هذه السنوات ما زلت أقرأ وأسمع من يحاول تصدير مفردة (الغربة) وإلصاقها بالذين تركوا البلاد (الوطن) طواعية، متناسين أنَّ الغربة الحقيقيَّة هي غربة الذات لا المكان، الغربة هي ضياع البوصلة وهدر الوقت والتخندق تحت عناوين بالية وجوفاء، شعارات لا تبني وطناً، ولا تُنضج مجتمعاً، ولا ترفع شأن إنسان، والحقيقة أنَّ الوطن يكون حيثما نكون، هو الشعور بالأمن والأمان والرضا، الوطن أنْ تكون مواطناً من الدرجة الأولى، لديك الحقوق كلها، وعليك الواجبات، فيك يزدهر الوجود، تغني وتصلي وتنشد للحياة، للإنسان، للأرض. الوطن يا سادتي الكرام أنا (الإنسان). بل هو الفضاء الذي أجد ذاتي فيه، المسرح الذي أُحبه وأنتمي إليه، أغنيتي التي كنتُ وما زلت أغنيها، لكنها يقينا ليست.. أغنية التم.
* مخرج وباحث مسرحي معاصر