الحوارات الأدبيَّة بوصفها قيمة ثرّة

ثقافة 2021/11/06
...

  د.غنام محمد خضر
تعد الحوارات الأدبية التي تجرى مع أي أديب ثروة أدبية بالغة الأهمية لكونها تكشف عن مناطق مهمة من تجربته قد لا تكشفها نصوصه، ومن الضروري أن يحتفظ الأديب بهذه الحوارات كي تكون جزءاً من رصيده الأدبي المهم، وصورة من صور إنتاجه التي تتضمن كثيراً من آرائه ووجهات نظره في تجربته والتجربة الأدبية عموماً، فضلا عن أنها يمكن أن تكون جزءاً من سيرته الذاتية في تلك الأسئلة التي تتعلق بمسيرته الإبداعية الحياتية الخاصة، وهو ما يجعل منها وثيقة خطيرة لا يمكن إهمالها أو التقليل من شأنها أبداً.
 
يعدّ الأديب محمد صابر عبيد من أكثر الأدباء العراقيين عناية بهذا المفصل الإبداعي من مفاصل تجربته، فقد أصدر مؤخراً كتاباً من ثلاثة أجزاء عنوانه «نوافذ لاعترافات الضوء: حواراتي» عن دار جليس الزمان للنشر والتوزيع في عمّان، يضمّ كل جزء منه باقة من الحوارات التي أجريت معه بحسب ترتيبها الزمنيّ المتعاقب، إذ ابتدأ أوّل حوار عام 1990 نشرته مجلة «أسرتي» الكويتية وأجراه الصحفي شادي صلاح في القاهرة، وكان حول محوره الأساس حول تجربته في كتابة الماجستير «المدينة في شعر أحمد عبد المعطي حجازي»، وتطرّق الحوار إلى الشعرية العربية الحديثة والمناهج النقدية الحديثة في تجربته النقدية، وغيرها من الأمور التي كانت تشغل الساحة الأدبية والشعرية منها على نحو خاص آنذاك.
وانتهى الجزء الأول من الكتاب بحوار غزير أجراه الدكتور محمود خليف خضير نشر في مجلة «شرفات» الموصليّة عام 2013، وكشف عن جوهر التفكير النقدي والأدبي لتجربته فضلاً عما يتّصل بهذا التفكير من قضايا ذات طبيعة فلسفية.
أما الجزء الثاني من الحوارات فقد بدأ بحوار شامل أجراه الدكتور الشاعر أحمد شهاب بعنوان «خمس مواجهات حوارية»، نشرت في صحف ومجلات مختلفة، ثم جُمعتْ على شكل كتاب صدر أولاً عن دار تموزي للنشر والتوزيع في دمشق بعنوان «أحلام حارس الهواء» عام 2013، وهي حوارات خصبة تأتي على جوهر تجربة محمد صابر عبيد الشعرية والنقدية والحياتية، وتكشف عن جزء كبير ومهم من طبقات هذه التجربة وأسرارها، وضمّ هذا الجزء حواراً مطولاً أجراه الدكتور محمد شيرين والدكتور عبد الهادي تمورتاش في جامعة يوزنجوييل في تركيا، وضمّ محاور عديدة وجاء تحت عنوان «حوار في الغربة»، وانتهى هذا الجزء بحوار طويل ضمّ ثلاثة محاور أجراه الشاعر الأردني نضال القاسم ونشر في مجلات وصحف أردنية 
مختلفة، وكشف هذا الجزء عن طبقة أخرى تعلّقت بتجربة الغربة بعد عام 2014 في تركيا، وما صاحبها من تحولات في تجربته على مستويات مختلفة أسهمت في تكوين 
جديد لفضائه الأدبي والنقدي والحياتي.
أما الجزء الثالث فقد ضمّ شبكة حوارات مختلفة، أهمها حوار أجراه: أ. د. خليل شكري هياس حول نظرية الحوار الأدبي وما يتصل بها من مفاهيم وإجراءات وتجليات، ثم حوار آخر شامل لحساب مجلة (علامات) أجراه: رئيس التحرير الأديب والفنان بيات مرعي، تطرّق إلى مجمل تجربة الأديب محمد صابر عبيد شاعرا وناقدا وأكاديميا، وربما لخّص هذا الحوار على نحو ما جزءاً مهما من تجربته على مدى ما يقرب من أربعة عقود.
ثمة حوار مهم آخر أجراه: الناقد السوري عصام شرتح وتطرّق على نحو مركّز إلى النظرية النقدية والمنهج النقدي، وما يتصل بذلك من شواغل نقدية وأطروحات وقضايا ومناهج تلقي الضوء على تجربته النقدية في مستويات مهمة منها، وحوار آخر أجراه: الأديب والصحفي السوري حواس محمود أتى على مفاصل حيوية مهمة أخرى من تجربته.
إنّ هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة هو عبارة عن مرايا متعددة، كل مرآة منها يمكن أن تكشف عن جزء من تجربة 
محمد صابر عبيد شاعرا وناقدا وأكاديميا، فضلا عن أنها تكشف في مرآة أخرى عن جزء كبير من تجربته السيرذاتية، ولا سيما في حديثه عن طفولته وأماكنها وذكرياتها وتجاربها، مروراً بتجارب ما بعد الطفولة 
ثم الشباب وصولاً إلى الراهن، وما صاحب ذلك من تطورات على صعيد النظرية الحياتية في الأشياء والرؤية المصاحبة لها في مقاربة الظروف المختلفة التي مرّ بها، وصولاً إلى مرحلة بناء القناعات الأساسية والجوهرية التي مثّلت تجربته في الحياة والثقافة والأدب.
لا شكّ في أنّ من أراد أن يعرف محمد صابر عبيد وتجربته في كل هذه المفاصل جيداً لا يمكنه تجاهل هذا الكتاب مطلقاً، ففيه كثير من المفاتيح الرئيسة والمركزية لفهم هذه التجربة من الداخل، والاطلاع 
على مستويات تطورها من خلال سلسلة هذه الحوارات، ويمكن أن تخضع هذه الحوارات لدراسات تكشف عن النظرية النقدية التي كوّنت تجربته النقدية رؤيةً ومنهجاً، وتكشف عن شخصيته الشعرية الخاصة والنوعية التي لم يستغنِ عنها أبداً في مراحل حياته كافة، وبقيت تغذيه بكل ما هو شعري أصيل، وتكشف أيضاً عن طبيعة حياته الخاصة في جوانب مهمة منها، حيث كان صريحاً ودقيقاً وشاعرا وناقدا وأكاديميا في كل أجوبته عن أسئلة المحاوِرين المختلفة بلا خداع ولا تهرّب ولا مداهنة، كان الصدق والصدق وحده جوهر هذه 
الحوارات.