ضجيج المرايا

ثقافة 2021/11/07
...

  نازك بدير
للخريف في الجبال طعم مختلف لا يمنح مهابة حضوره لأي فصل آخر، وكأن جمالات الطبيعة تختزن على مدار العام لترسم لوحات على التلال، والسواقي، والدروب، والمصاطب، والمزاريب، وسطوح المنازل.
أبرمَت أوراق الأشجار اتّفاقيّة مع أمها، فهي بعد رحلة الانشقاق عنها، تراها في كثير من الأحيان تبقى على مسافة قريبة من الجذع، أو من الفسحة التي شكلت سابقا دائرة الظل. وكأنها تحاول في حياتها الجديدة أن تفترش الأرض، تضمّ الشجرة، تودعها كطفل يأبى الانفصال عن أمه. في الجبال، غالبًا ما تبقى الأوراق ملتصقة بالتّربة تحت الأشجار، تتوحد معها، تمتزج بالأرض لتهبها الحياة. 
وكأنّ في هذا الاتحاد تباشير بولادة ثانية قادمة، وأنّ النهاية لن تكون عند هذا الحد، إنّما هذا السقوط هو مرحلة مؤقتة من عمر الزمن، وتهيّؤ لانطلاقة أخرى، واستعداد لبعث غبّ موات. وإنْ حدث وأبْعدَ الهواء بعضًا منها، فهي غالبًا ما تتكوّر على نفسها في إحدى الزوايا، وكأنّها تخشى أن تتفرّق مرّة ثانية... 
تتكدس الأوراق فوق بعضها البعض، وكأنها أغطيّة تشعرك بالدفء، على الرّغم من لسعات البرد. يمتزج الأصفر والأحمر مع البنيّ لنسج سجّادة طبيعيّة تنافس خيوطها أمهر الحائكين في تدرّج الألوان 
وتداخلها. 
متى تقترب منها، تصدر صوتا شجيًّا قد يجعلك تتمنع الدوس عليها مخافة كسر أطرافها، فتجد نفسك مجبرًا على السّير بشكل لولبيّ محاولا التماس الفراغات في ما بينها، متجنبًا خدش ورقة سقطت للتوّ، ولا تزال ترتب مقعدا لنفسها بين من تقاطرت قبلها، واصطفت وشاحا قشيبا. وكأنّ الغيم يصخ السمع، فلا يتركها يابسة على الأرض، فإذا بقطرات الماء تتساقط متقطعة، تبلّلها، من غير أن تفسِد لونها، أو تدفعها من أمكنتها. بعد {الشتوة} تلك، يمتزج المطر، والتربة، ولحاء الشجر، وبقايا ورقة في قارورة عطر تنافس العطور الباريسيّة، ويفوح عبق الأرض، ويتغلغل إلى أعماق الرّوح، ويستوطن في الأعماق.
أما في المدينة، رصيف رماديّ باهت يلفظ بصقيعه الأوراق بعد أن تطأها أقدام العابرين وتمعن في تشويه قسماتها، فتتطاير غريبة كوجوهٍ ضاعت بين ضجيج المرايا.