الخصوصية التركيبية في (دوران)

ثقافة 2021/11/09
...

  علوان السلمان
 
النص القصير جدا (نص الصورة) شكل من اشكال الحداثة الشعرية التي تحالفت والتحولات الفكرية والفنية والمؤثرات الخارجية والداخلية لخلق عوالمه المسايرة للتغيرات الحضارية والمعبر عن احساس شعوري بتشكيل شعري يعتمد بناء متجاوزا لمحطات الذاكرة ليحقق في المخيلة وجوده المستفز للفكر المنتج لنصه المقتصد بألفاظه والموجز بجمله.. والمعتمد اللفظة الموحية المكتظة (بدلالة تأتيها من الخارج) على حد تعبير ادونيس. 
وباستحضار المجموعة الشعرية (دوران).. التي نسجت عوالمها الدورانية النصية الثلاثة ونصها الموازي (الاهداء) (الى الشعراء وهم يؤسسون للعالم دورانا جديدا بين افلاك السماء نزولا الى ارض الرؤى والجمال والعرفان للأثر الخالد الانسان..) انامل الشاعر جاسم العلي واسهمت دار الصحيفة العربية في نشرها.. كونها تجسيدا حلميا يزيده وعي الشاعر عمقا ويكسبه بعدا انسانيا واجتماعيا فيجعله قادرا على التوحد بين الذات والذات الجمعي الآخر، فضلا عن اتسامها بخصوصيتها التركيبية ووحدتها الموضوعية مع تفرد في الايقاع المنبعث من بين ثنايا الالفاظ والصور واللغة الرامزة اليومية والفكرة المنبثقة من بين مقطعياتها الشعرية التي تؤطرها وحدة موضوعية دالة.. (لا تفزعي/ من رعشة القبلات/ فشفتاك الطريتان تبددان/ الخوف/ تتفتحان بأسرار اليقين).
فالشاعر يحاول استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية مع اعتماد الرمز النصي المكثف، الموجز لخلق عالمه النصي بذهنية متفتحة ورؤية باصرة لوعي الفكرة وتحقيق اضاءتها باعتمادها اللفظة المركزة، المكتنزة بالإيحاء والمتميزة بالانسيابية والتدفق، فضلا عن انه يحاول ان يشكل حالة من التوازن لذاته المأزومة من خلال تركيز الجملة داخل عوالم البناء المتدفق شعوريا بوحدة موضوعية وفكرية مركزية يحلق ويحوم حولها المعنى.
 (العصافير على سياج حديقتك/ تتلو سر الحلم بجذور قيامتها/ وعيناك/ تشعان/ تبحثان عن معرفة الظل ووحدة الجسد في الأشياء). 
فالنص يحتضن دلالة نفسية وعاطفية خارج الذات فيعبر عن الحالة القلقة التي يعانيها الشاعر وهو يقدم نصا شعريا يعتمد التكثيف بصمت ايحائي مقروء، مستفز للذاكرة المتأملة لما خلف الالفاظ من اجل استنطاقها لتحقيق ذروة المتعة الشعرية.. (ثلاثة اشياء أحبها/ انا وانت ونثار الريح على نافذتي/ فالعالم لا يدرك الزمن المتطاول/ كما انت).     
فالشاعر يترجم احاسيسه وانفعالاته بنسج شعري واسلوب درامي ليحقق وظيفة النص من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعالمها المتناسق جماليا مع دقة تعبيرية بألفاظ موحية ودلالة مكثفة بتوظيف تقانات فنية محركة للنص.. كالتنقيط (النص الصامت) الدال على الحذف.. المستدعي للمستهلك لملء فراغاته.. والرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بشعريته واتساع مساحة دلالته التي تجرنا الى قول النفري الصوفي (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة).. لخلق قصيدة الصورة التي (تنقل موقفا شعوريا بعاطفة موحدة وتناغم موسيقي تركيبي دلالي..) فضلا عن انها تعبر عن قدرة فنية منسجمة مع ما تقتضيه ضرورة التعبير الفني وتشكيل الصورة الشعرية وتكثيفها وتعميقها.
(تظل وحدك تركض خلف خطاك/ يدفعك العالم لاختيار/ صلاة البحر في المنحنيات/ او في رعشة الازهار).
 خطاب الشاعر خطاب الذات ومناجاتها للتعويض عن الغربة التي يحس بها ومن ثم ايجاد حالة من التوازن بينه والعالم المحيط به.. فكانت رؤيته تتصل بطبيعة نفسه وتكوينه الفكري والروحي وظروف حياته والواقع.. باعتماده الوحدة والكثافة المركزة والانزياح اللغوي عن المألوف واعتماد ضمير المتكلم، فضلا عن تميزه بالحركية من خلال توظيف الافعال (تظل ـ تركض ـ يدفعك..) والتي جمعت بين الدلالة الحسية والمعنوية مع احتفاظها بمدلولها الزمني. 
وبذلك نسج الشاعر نصوصا اعتمدت على استثمار الجملة اللغوية المشحونة بطاقات تعبيرية تقيم شعريتها على الغرض الموحد لتلك الطاقة مع تعامل صوره مع الفكرة، لذا تبدو بصرية حسية مع بناء درامي يستمد من تفاعل ذات الشاعر بواقعه بتأملية مؤثرة منبعثة من لغة شعرية متدفقة..