هل الروائي مؤرخ؟

ثقافة 2021/11/09
...

  علي لفتة سعيد
الكتابة الروائية يبدو فيها العالم ضيّقا، أو أنه يحتاج الى أكثر من عينين في رأس الروائي، أو أنه يحتاج الى مقدرةٍ لجمع ألسن الآخرين ليستمع لهم بذات الآذان في أوقاتٍ مختلفة.. الروائي ربما سيبدو في هذه الحالة أشبه بالماكينة أو الآلة التي تعتمد على مقدرة الصناعة الأولية التي جهزت الأدوات الاحتياطية لصناعتها، مثلما تعتمد على القدرة التي تلاحق الأحداث. فالراوية عالمٌ صاخبٌ وإن بدأت هادئة بين غلافين. 
وعالمٌ ضاجٌّ بين غلافين مثل كونٍ تتقلّب فيه المجرّات كلّما تمكّنت مخيّلة العلماء من التوغّل في عمقه، والعلماء هنا هم القرّاء حيث يقدّم لهم خالق النصّ الروائي عالمًا مترامي الأطراف أو مجرّات متوزّعة أو حتى كونا متناهيا من الوقائع، سواء كان هذا الواقع فنطازيا أو غرائبيًا أو واقعًا اجتماعيًا حقيقيًا وقع في مسارات الزمن التي يتم تخطيطها لتكون عبورًا آمنًا للإيمان بالواقع.
لذا فالسؤال الذي يتبادر الى الذهن أمام هكذا تفسير لعالم الرواية المتأتّي من تجربةٍ روائيةٍ تمدّ الى إصدار أكثر من 10 روايات غير الروايات التي لم تصدر بعد، وعشرات إن لم أقل المئات من المقالات النقدية عن الرواية.. هل الروائي مؤرّخ؟ وهل عليه الالتزام بالأحداث التاريخية بزمنها وأماكنها وأرضها؟، هل الروائي صائد أحداث الواقع لينقله كما هو؟ بالتأكيد هناك من يرى من النقاد الكبار سواء الأوّلين منهم والجدد، إن الروائي ليس مؤرّخًا، بل هو يأخذ حيّزًا من الواقع ليبني عليه مادّته السردية، ويجعلها مقرّبةً من مخيّلة المتلقّي ويقنعه أن ما قرأه هو الواقع، حتى لو كانت فكرة الرواية فنطازية، حتى لو كانت غرائبية أو من الخيال العلمي.. فالرواية لا يجوز لها أن تقدّم الواقع كما هو، وإلّا فما معنى أن يقضي المتلقّي وقتًا لقراءة رواية تمتدّ صفحاتها ما بين 150 الى أكثر من 300 صفحة في معدل الروايات العالمية ليرى أن ما كتبه الروائي مذكور في كتب الآخرين.
في روايتي (السقشخي) لم أكن أريد أن أكون مؤرّخًا لأحداث 11 أيلول سبتمبر، وتفجير برجي التجارية العالمية.. ربما تكون هذه الرواية هي الأولى عراقيًا ولا أدري إن كانت هناك روايات عرية تناولت هذا الحدث كثيمة صراع.. كنت أمام محنة الوقوع بفخ الواقع والزمن الأصلي وأنا أتوغّل في المكان الواقعي. سواء الواقع العراقي ومدينة سوق الشيوخ التي ينتمي لها العنوان والشخصية الرئيسة كنسب لهذه المدينة، أو المكان اللبناني أو المكان الأميركي.. حيث تدور أحداث الرواية.. وما بين أهم مكانين هما سوق الشيوخ ونيويورك، تبدأ اللعبة المكانية، لكن الزمان لم أكن أريده بصورةٍ دقيقةٍ لكي أجعل المتلقّي يبحث عن دهشة التلقّي لا صدقية المعلومة.. كون المتلقّي لا يريد من الرواية أن تنقل أحداثًا يعرفها مهما تفنّن الروائي من إيجاد المخفي وإظهاره، لأن لا شيء في الزمن الراهن غير معروف، والروائي لا ينقل أحداثًا تاريخية لم يشاهدها متلقّي الحاضر لكي يوهمه أيضا إنه يكتب رواية تاريخية. 
في هذه الرواية أردت التعبير عن محنة العراقي، متّخذًا من رجلٍ جنوبي فنان ومدرّس سبيلًا لولوج ما هو غير مرئي في الحياة التي يعيشها للمتلقّي.. فليس هناك شيءٌ غير معروفٍ في زمن أخذنا نطلق عليه الآن النظام السابق، حيث يمكن أن تذهب بسبب كلمةٍ واحدةٍ الى السجن إذا لم يكن الإعدام.. لذا أردت أن أطوّر عذابات الرجل العراقي الذي يعيش المحنة دوما.. فجعلته يهرب الى عمّان ثم بيروت ثم أميركا من خلال الارتباط بشابّةٍ أميركيةٍ من أصلٍ لبناني، يتزوّجها وينتقل معها الى هناك.. ولأن له خال شيوعي ومثقّف فقد سمع منه أن كلّ شيء في العالم، ينطلق من هناك من مدينة نيويورك والمخطّط في الاسكتلنديارد البريطانية، فيصرّ على الذهاب الى هناك، ويصادف في تلك اللحظة وهو يلتقط صورًا بكاميرته التي جلبها معه. فيتم اعتقاله بتهمة الانتماء الى تنظيم القاعدة، فيعود الى السجن ويقارن بين حالتي التحقيق في العراق والتحقيق في أميركا، ويصر على انه ابن مدينة مسقط ابراهيم الخليل وأنه ليس من المتعصّبين، بل محبي الشعر والفن.
الرواية لا ترتكز على هذه الجزئية فقط، فهناك الكثير من المفارقات حيث يرى من خلال الفضائيات هذه القوات وهي تدخل مدينته وتسرق الوثائق من الدير اليهودي هناك.
هل في الرواية أحداث تاريخية صرفة.؟ هل هنا تحوّلت الى مؤرّخٍ للأحداث أم أني مهتمّ باستغلال الوقائع لإضافة عناصر كثيرة للدهشة والصراع، ومن ثم جعل المتلقّي وكأنه يقرأ الوقائع بطريقة المخيّلة ؟ إن البعض أشكل مثلًا على اتخاذ خال البطل شيوعيًا.. والبعض أشكل على وجود دير يهودي في مدينة جنوبية.. والبعض أشكل على ما ذكر من زمن لحظة تفجير الطائرتين ليس صحيحا، دون الأخذ بنظر الاعتبار أن الزمن المذكور هو زمن الكاميرا التي جلبها معه وليس الزمن الأميركي.
إن عدم فهم خصائص الرواية وتجربة الروائي واستسهال القراءة، يحيلنا الى بساطة التلقّي لدى العربي الذي لا يريد أحداثًا واقعيةً في قراءته للرواية، لكنه إن وجد ما يخالف معلوماته دون تعب التدقيق، فإنه يعد الرواية ناقصةً ويبقى يدور في فلك النقطة الواحدة من آلاف النقاط التي تحملها الرواية.