فن البقاء

منصة 2021/11/09
...

د.عبد الخالق حسن
 
يولد الإنسان وتولد معه هواجس البقاء والسلامة. ففي صغره يجد من حوله فريقاً من الأهل يرعونه ويحمونه ويصنعون الجدران حوله لكي تقيه من المخاطر. وحين يكبر ويشتد عوده يصنع كل أسباب الدفاع ليبقى بعيداً عن كل ما يهدد أمنه. غريزة البقاء هي غريزة أساسية وجوهرية عند البشر، بل ويشتركون فيها حتى مع الحيوانات غير العاقلة.
لكن في مرحلة من مراحل العمر، وهي مرحلة الصبا والمراهقة وصولا الى مرحلة الشباب، يمر الإنسان بحالة انتقالية بين الاستمرار في الحصول على حماية الأهل، وبين الاعتماد على نفسه ليميز ما يمكن أن ينفعه من أن يؤذيه. لذلك يحتاج الإنسان هنا إلى الخصوع لتمارين وخبرات تساعده في التغلب على الظروف الصعبة التي قد يمر بها. كان جماعة من العرب قديماً يرسلون أبناءهم إلى البوادي البعيدة لدى بعض القبائل، ليتعلموا فن الاعتماد على النفس وليشتد عودهم. أما حين نأتي إلى التجارب الغربية، سنجد في العصر الحديث أن تجربة (المخيمات الكشفية) هي عنصر مهم ما زال معمولاً به إلى يومنا هذا. 
إذ يعمد الأهالي إلى ترك أبنائهم في مخيمات بعيدة عنهم يتعلمون فيها كيف يواجهون الحياة، وكيف يستطيعون خوض التحدي منفردين، فضلاً عن المهارات الأساسية التي تجعلهم عناصر ناجحين في مجتمعاتهم. كذلك ما زالت المجتمعات الغربية حتى هذا الوقت تعطي دروساً في الاسعافات الأولية لمواجهة الكوارث. وقد شاهدت الكثير من التقارير عن عمليات إنقاذ من الموت، يقوم بها أشخاص لأشخاص آخرين، اعتماداً على الخبرات التي اكتسبوها من المخيمات الكشفية، أو من دروس الصحة العامة والدفاع المدني. وهذا كله طبعا يعزز من قيمة التماسك الاجتماعي ويعلي من شأن الإنسانية. والمعنى الحاصل هنا، أن معرفة واكتساب خبرات عن فن البقاء لا يتعلقان بالشخص نفسه، بل إن التأثير سيعبر إلى 
الآخرين.
أتذكر أن مناهج فن البقاء كالصحة العامة أو الدفاع المدني أو المخيمات الكشفية، أيام الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، كانت مقررة للطلبة من أجل تحقيق فائدة تعليمية واجتماعية. والغريب أن العراق المعرض اليوم للكثير من الأزمات الصحية والحربية، فضلاً عن الأخطار اليومية، قد توقفت فيه وزارة التربية عن إعطاء التلاميذ والطلاب دروساً ثابتة وفق مناهج محددة، تساعد أبناءنا على تجاوز لحظات الخطر وتجعلهم يشعرون بقيمتهم 
الاجتماعية.