«حيث تركت روحي».. انطولوجيا الذاكرة

ثقافة 2021/11/10
...

  رشا الربيعي
الذاكرة البشرية هي كنز الإنسان الخفي، يتصفحها أنى شاء وكيفما شاء ليسترجع من خلالها مواقف وذكريات حياتية تهمه في لحظته تلك، لتكون الذاكرة بذلك مثل أداة رحيمة وجدت لتسهل للإنسان عيشه، لكن في هذه الرواية كانت بمثابة ظله المشوه/ الجلاد الذاتي لصاحبها النقيب (أندريه دوغورس) رافقته أينما حل وارتحل
(حيث تركت روحي) رواية للكاتب الفرنسي واستاذ الفلسفة (جيروم فيراري) الذي علق عنها في المقدمة قائلاً: «ما كان يهمني في هذه الرواية، هو النظر في كيف يجد الإنسان نفسه، في وضعية تسمح له بممارسة التعذيب على الآخرين»، صدرت الرواية بنسختها العربية عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع عام 2016 بترجمة محمد صالح الغامدي وبلغ عدد صفحاتها 162 صفحة.
ولد فيراري في باريس عام 1968 وتنقّل بحكم مهنته بين عدة بلدان عربية، زار الجزائر لأول مرة عام 2003 بعدما تم ترشيحه من قبل البعثة الفرنسية للعمل فيها أستاذاً للفلسفة، حينها لم يكن يعرف شيئاً عن الجزائر التي كتب عنها لاحقا روايته هذه، ثم انتقل بعدها إلى الإمارات للتدريس في المدرسة الفرنسية/ أبو ظبي، الإمارات التي أعجب بها ووصفها بأنها المكان الذي يُمكن منه ولادة عالم جديد، عالم يسطع فجأة لتعويض عالم قديم. 
صدرت له روايات عدة أكثرها شهرة (حيث تركت روحي) الحائزة جائزة تلفزيون فرنسا، (موعظة عن سقوط روما) التي حازت جائزة غونكور الفرنسية وكانت أولى أعماله المترجمة إلى اللغة العربية، كما وحاز جوائز أخرى من أهمها جائزة لاندرنو، وجائزة «أس جي. دي. أل». 
قدّم لنا (جيروم فيراري) في هذه الرواية عملاً مهمّاً على مستوى التكثيف السردي والوثيقة التاريخية، وكذلك على مستوى البناء الروائي ونمو الحدث وتطوره والانتقالات الزمنية وتداخُل الهنا والهناك. بلغة رشيقة يأخذنا جيروم فيراري مع أبطاله في رحلة سايكولوجية وفلسفية لأزمنة ومدن مختلفة عبر تقنية الفلاش باك. فما بين ذكريات يستعيدها الملازم هوراس أندرياني وذكريات يحاول النقيب دوغورس الهرب منها تسرد الأحداث بشكل تتابعي أقرب إلى الرسائل أو المذكرات، مقسّمة الزمن الظاهري للكتابة لثلاثة أيام ولكن الزمن الفعلي للحدث يمتد لأكثر من أربعين عاماً.
 تتحدث الرواية عن مجموعة من ضباط فرنسيين عُذبوا طويلاً في معتقلات النازيين ثم عانوا من السجن والذل في فيتنام/ الهند – الصينية مسبقاً، وبعد ذلك تغيرت دورة الحياة ليغدو الضحية جلاداً والسجين يتحول إلى سجّان، تمثّل ذلك عبر انتقال الضباط الفرنسيين للخدمة في الجزائر أثناء حقبة الاحتلال الفرنسي لها (1830-1962). فليس كل من تعرّض للظلم وقهر الاستبداد سينصف المظلومين بعدما تحرر من قيود الظالم.
 
هل الإنسان
 شرير بالفطرة؟
يرى توماس هوبز أن الإنسان في حالته الطبيعية شرير بطبعه، ولكن في هذه الرواية ستتفق مع هوبز تارة وتختلف معه تارة أخرى. نواجه في الحياة اختبارات عدة تسهم في معرفة مدى إنسانيتنا، ولكن يظل الاختبار الحقيقي الذي نواجهه هو حينما نتسنم منصباً يمنحنا سلطة تكاد تكون شبه مطلقة، منّا من يروق له السير مع أمواج الحياة الجارفة مثل الملازم أندرياني فلا يكلّف نفسه عناء السؤال حتى، ليتجسد عبر سلوكه هذا الشر الفطري للإنسان. ومنّا من ينهك روحه بالتساؤل ولكنه لا يبحث عن جواب وهنا سينسى روحه مثل النقيب دوغوروس ذي الروح الحساسة، والذي تحوّل في ما بعد إلى أداة بيد السلطة ينفذ مآربها وغاياتها علناً ويلعنها سراً، السلطة التي تحدث عنها رولان بارت قائلاً: «السلطة تسخّر كل الأشياء من أجل خدمة مصالحها بل تسخّر حتى مولود المتعة الجنسية كي يكون جندياً صالحاً لخدمتها»، إذ نجحت السلطات الفرنسية في سلب روح النقيب وحرمته من حق التساؤل الذاتي بل وحتى حق الندم على سوء أفعاله تجاه المعتقلين الجزائريين من أعضاء جبهة التحرير الوطني، وحوّلت رغبة الجنود بالحياة إلى التوق من أجل التضحية وأية تضحية؟، التضحية غير المجدية. كما وأقنعتهم حتى دجنتهم بأن الإحساس خيانة والشعور بالآخر جرم بحق الدولة، الدولة التي دعمها الإنسان الصناعي رغبة منه بتخليصه من الحروب التي فتكت به وبمجتمعه، ولكنها ما أن أمسكت بزمام الأمور تمكّنت منه أولاً وذلك عبر زجه بحروب أكثر دموية وعبثية من سابقاتها، فتحوّل الصراع الفردي إلى جماعي متمثلاً بدولة ضد أخرى، وتحول الإنسان إلى مجرد رقم في سجلاتها وخبر عاجل يعلن خبر موته عبر وسائل إعلامها.
كيف لباريس مدينة الأنوار أن تخالف وعود الثورة الفرنسية؟، وأي قانون إنساني يتيح لها الحق في أن تستجوب أي مواطن جزائري يقع أمام انظارها وتعذب من لا يعرف الإجابة!، وهل هنالك من فرق بين الحياة في القرون البدائية والحياة في زمن الحضارة؟.
 
متوالية الدم الإنساني 
إنَّ النكبات المستمرة التي تمر بها الشعوب تجعلها تنسى من تسبب لها بالألم والأسى ولا تفكر سوى بنكباتها الحالية، بل حتى المشاعر تتغير بمرور الوقت فيغدو المحتل/ العدو بنظر أهل الدار صديقاً، ويتحوّل أهل الدار في ما بعد إلى أعداء.
«كل شيء يُنسى بسرعة كبيرة، الدماء التي أرقناها مسحها منذ فترة طويلة دم جديد وسيأتي بعده دم آخر يمحوه».
حين زار الملازم أندرياني الجزائر بعد عدة سنوات من انتهاء الاحتلال الفرنسي، ذهب إلى الأمكنة ذاتها التي طبعت في ذاكرته مخضبة بدماء الجزائريين، ومرّ بالمطار الذي يحمل اسم أحد أعداء الأمس القريب ولم يعاتبه أحد على ما ارتكبه بحق الجزائريين من جرائم، بل على العكس من ذلك رحبوا به واحتسى الشاي في أحد بيوتها، ولم يكن في قصد أهلها بذلك خيانة للوطن ولكنها متوالية الدم التي تفرض على الإنسان أن يكون مكباً للنسيان.
الخير والشر خطوطهما واضحة، واضحة جداً لمن يرغب خوض سباق الحياة واختبار الإنسانية فيها ونيل شهادة النجاح من مدارسها، نحن نتورط غالباً في ذلك الفضاء الضبابي بينهما، فنلبي نداء النفس البشرية ونزعم أنه نداء الله، نتجرّد من إنسانيتنا شيئاً فشيئاً ونتعكّز على الظروف، تلك الظروف التي تخلق من الضحية جانياً ومن الجاني ضحية ليبكي الاثنان الظرف والقدر الذي قادهما إلى هذا المسار.  ولكن ماذا عن أرواحنا التي تتهشم تحت معول سلوكنا اللا إنساني بحق الآخرين، ضحايا اليوم وربما جناة 
الغد.
فبعدما آمن الجزائريون بجبهة التحرير الوطني وانضموا لها وخبؤوا أعضاء الجبهة في منازلهم وقراهم انقلبت الموازين وظهرت خفايا النوايا، فما أن اشتد عود المجاهدين اشتدوا على ذويهم أولاً ففجّروا المواخير وقتلوا الراقصات، حرّموا الفن ونصّبوا أنفسهم كجنود للرب أعلى من الأرض وسكانها، يقفون على أبواب السماء ينادون بأعلى أصواتهم: بعثروا جهاز العروس على الطرقات واقتلوها في ليلة زفافها، خضبوا سيارات الزفاف بالدماء فالفرح ممنوع في أرض الرب ونحن هنا جنوده فنفذوا أوامرنا وإلا هلكتم على أيدينا قبل أيدي المحتل.
(حيث تركت روحي) رواية من أدب السجون ولكنها تروى من وجهة نظر السجّان (الجلاد) لا الضحية، الجلّاد الذي سينسى روحه في لحظة ويظل يبحث عنها دهراً، إنها رواية تحاكي الذات المدجنة والذاكرة المليئة بالدم.