الإنسان في متاهته

ثقافة 2021/11/13
...

 هدية حسين
 
سيقضي القارئ وقتاً ممتعاً مع هذه الرواية التي كانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، إنها (آخر الأراضي) للروائي اللبناني انطوان الدويهي، وما يُدهش فيها هو ذلك الانتقال السلس بين الحكايات والأحداث والأماكن، وذلك الغوص في عالم الراوي وهو يبحر في ذاته ويطرح الأسئلة التي لا تجد لها جواباً لأنها تتعلق بسر الموت وأسباب الاختفاء، سنصغي للراوي وهو في القطار الذاهب الى قرية سولاك البعيدة بحثاً عن حبيبته (كلارا) التي هجرته منذ سنتين من دون أسباب واضحة، كان قد تعرف عليها في المعهد الملكي، هو يُدرّس الموسيقى في العصر الوسيط وهي تدرس تاريخ الفن، لكن قصة اختفاء كلارا جاءت بعد صفحات كثيرة كرّسها الراوي للحديث عن (سلمى) منذ بداية الرواية، سلمى التي أسلمت الروح فجأة وهو جالس بالقرب منها فكانت أول تجربة له بمواجهة الموت أثرت في حياته وهيمنت عليها لفترة طويلة، إنه لموقف صعب أن يموت أمامك شخص عزيز كان يتحدث إليك قبل لحظات، بالتأكيد سيربكك المشهد كما أربك الراوي، وستستعيد لأيام وأيام كل ذكرياتك معه، والأكثر من هذا ستتغير رؤيتك للحياة وتجد نفسك تبحر في خضم عميق من الأسئلة الوجودية، فمن هي سلمى التي غيرت لحظة موتها الموازين وسلبت من الراوي هدوء نفسه؟
هي فتاة مهاجرة ارتبطت بعلاقة حب مع رجل مهاجر هو الآخر، لم يكن على قدر مسؤولية الحب فتركها من دون أسباب وعاد الى بلده بعد أن وقفت الى جانبه في مواقف صعبة كثيرة وكانت خشبة نجاته، كانت تعمل في الأعمال الخيرية، ومن هنا تعرفت الى الراوي وأصبحا صديقين حميمين، لم يبخلا بفتح خزانة أسرارهما بكل ما يتعلق بحياتهما، وكل منهما كان قد مر بتجربة مماثلة هي تخلي من يحبه عنه، فالراوي هو أيضاً كان يعاني من اختفاء حبيبته كلارا، وإذا كانت سلمى قد عرفت أن حبيبها عاد لوطنه فسيبقى سر اختفاء كلارا عصياً على معرفة الراوي، وحين مرضت سلمى كان الى جانبها في كل خطوة حتى تعافت، لكن الموت المتربص بها لم يشأ الاستسلام حين نجت من المرض ففاجأها من جهة قلبها وأسكت نبضها وهي في شقتها وأمام عيني صديقها الحميم، ومنه سنتعرف أكثر على حكايات سلمى التي كانت تحلم بالعودة
الى وطنها.
تنساب ذكريات سلمى ونحن ما نزال في المحطة الأولى من القطار فنرى من خلال نافذته البراري والمدن، والذاكرة تبث شريطها من دون توقف، قصة سلمى عن أهلها، وأبيها الذي اختطف أثناء الحرب وصادف أن أحد تلامذته كان من بين الجماعة التي اختطفته فسهّل عليه الهرب، وحكايات أخر تأتي من حين لآخر تتقاسم المشهد مع حياة الراوي ومشاهداته اليومية لكل من يمر في طريقه، وكيف تغيرت نظرته للحياة بعد موت سلمى، وكل ما يحمله الماضي يعود إليه ويهيمن على حاضره ويحاصره، تحضر كل الفقدانات في حياته، تستعيد حياتها وتتنفس بالقرب منه، ولا تتوقف الرواية عند سلمى وكلارا وبعض الأصدقاء، وإنما يفتح انطوان الدويهي عالم الأدب والفن وما يحدث فيه فتتسع المساحة لأكثر من مجرد حكايات عن الحب والموت، فهي أيضاً ما يمسك به الإنسان من قيم جمالية وأفكار نيّرة على الرغم من تشوّه العالم.
يقف القطار في محطة، ينظر الراوي الى الفضاء والى الناس، تصعد امرأة أو رجل، سيكون للراوي نظرة وخيال عما يحمله هذا الوجه أو ذاك، يغادر القطار الى محطة أخرى فتعود الحكايات، وتعود معها سيرة الراوي في طفولته، وما قالته أمه الثمانينية بعد أن كبر، وحكايتها حيث تربت وسط مزارع الكروم، يندهش لذاكرتها الساطعة وهي تحكي عن جولاتها وتعدد له أصناف العنب والأزاهير، ثم يأخذنا الى ذكرياته في مدينة سان مالو التي أحبها لأنه التقى فيها حبه الكبير، كلارا، تلك المرأة التي يقول عنها بأنها (مختصر الأجساد ومختصر الأسماء منذ بدء الخليقة)، وتقفز حكاية صديقه رئيف حيث نهايته التراجيدية، فبينما كان رئيف يعوم في البحر وكانت حبيبته تنظر إليه من النافذة بحب، تحول المنظر في لحظة خاطفة من حب الى رعب، لقد هدر البحر بأمواج عالية وعاتية ابتلعته وقذفت به الى الأعماق.. وهناك حكاية الرسام الكبير، السبعيني الذي لا يبالي بالزمن.
أسفار وأسفار، بحار ووهاد، مباهج عبرت وأخرى لم تبرح ذاكرته، ومحطة إثر محطة تنبثق الحكايات كما لو أنها تجري للتو، حكايات قد تبدو بسيطة أو تحدث للكثيرين، لكنها هنا مشحونة بقدر كبير من دراما الخسران، وسيرحل القارئ من دون عناء الى روعة ما يحكيه الراوي من مباهج الأمكنة وطقوس أهلها، تاركاً لديه تلك الأسئلة المتعلقة بالموت ومعنى الحياة من
دون إجابات.
لقد لعب انطوان الدويهي على ذلك الخيط الرفيع بين الحياة والموت، وروايته (آخر الأراضي) ليست آخر الأحزان الإنسانية، ولن تكون الأخيرة، نحن نعيش تراجيديتها في كل حين، لكننا في كل مرة نكتشف مفاجأة الموت على الرغم من إدراكنا أن النهاية المحتومة آتية لا محالة، نحاول تفاديها إلا أنها ثابتة لا تتزحزح، تمضي في طريقها كانسة كل العقبات، ويبقى الإنسان يجتر ذكرياته ويعيد تدويرها مرات ومرات كما هذا الراوي الذي لا تنتهي حكاياته إلا لتبدأ، لكن كلارا ستظل محور حكاياته، ثمة قلق يخيفه أن لا تكون كلارا في هذا العالم، وها هو يرحل في نهاية كل أسبوع الى سولاك بحثاً عنها لأنها قالت له يوماً إذا أضعتني ستجدني في سولاك... فهل سيجدها هناك؟ أم أنها ما عادت في هذا العالم؟