الحب القصير والنسيان الطويل

ثقافة 2021/11/14
...

 محمد تركي النصار
ينتمي بابلو نيرودا إلى جيل عام 1927 الذي يتكون من مجموعة من الشعراء الاسبان، وبرغم الآراء التي قد تختلف في تقييم تجربته إلا أن هناك حقيقة ساطعة وهي أنه كسب محبة الملايين بمنجزه الشعري الفريد. وقد أصبح أكثر أهمية من شاعر بيرو قيصر فاليجو الذي حظي بتقدير عالٍ، وبرغم عدم امتلاكه للقدرات النقدية المهمة في بداية مسيرته الشعرية، إلا انه كان حاذق الادراك وعارفا بقيمة شعراء بلده تشيلي.
نشر نيرودا عددا من قصائده في عشرينيات القرن الماضي في مجلة (كلاريداد) التي كانت تصدر عن جامعة سانتياغو، وبعد صدور كتابه (عشرون قصيدة حب وأغنية حزينة)
أصبح نيرودا الشاعر الأكثر شهرة وحظي باهتمام مميز من قبل القراء والنقاد، وقد فاقت شهرته جميع مجايليه من الشعراء في تشيلي وكذلك في البلدان الأخرى، وترجم شعره إلى معظم لغات العالم. تفيض قصيدة (أستطيع الليلة أن أكتب أشد الأبيات حزنا) بالعاطفة المشبوبة وهي تصور هزيمة عاطفية وتتحدث عن أحاسيس الهيام والعزلة، إذ يصف المتحدث في أبيات القصيدة، طاقته المتدفقة، وقدرته على كتابة القصيدة الأشد حزنا على الاطلاق بحسب وصفه، فهو يعيش حالة وجدانية تنثال أبياتا زاخرة بالعذوبة والرقة والشجن، مقدما العديد من الأمثلة عن هذه الحالة:
أستطيع هذه الليلة أن أكتب أشد الابيات حزنا 
أكتب مثلا، الليل يتشظى والنجوم الزرق تتلامع في البعيد.
رياح الليل تدور في السماء وتغني 
هذه الليلة أستطيع أن أكتب أشد الأبيات حزنا 
أحببتها، وهي أيضا أحبتني في بعض الأحيان 
وفي ليال تشبه هذه الليلة عانقتها بذراعي
وقبلتها مرات ومرات  
تحت السماء اللامتناهية 
أحبتني أحيانا وأنا أحببتها أيضا.
تعبر القصيدة عن ثيمات الحب، وفقدان الحب، والوحدة، بلغة شاعرية مليئة بالفيوضات الحسية وبصور شعرية خالدة في معانيها واكتنازها، ويناقش نيرودا أيضا التغيير والتحول في علاقته مع حبيبته، وكيف يشعر الان بعد أن فقدها، ويبدو انها الان عشيقة شخص اخر، اذ يستعيد ذكرى ليال مثل هذه الليلة عندما كانا يتعانقان وكيف يشعر بالضياع والتشتت بعدها:
وكيف لي أن لا أحب عينيها العميقتين المدهشتين،
أستطيع هذه أن أكتب أشد الأبيات حزنا 
أن افكر بأنني خسرتها، أن أحس بأنني خسرتها 
أن أصغي لليل العميق اذ لايزال شاسعا بدونها 
والشعر يسقط على روحي مثل الندى على العشب 
وماذا يهم اذا كان حبي لم يستطع الحفاظ عليها 
الليل يتشظى وهي لم تعد معي. 
  قصائد الحب التي كتبها نيرودا هي التي كرسته شاعرا كبيرا باستخدامه صور الطبيعة الواضحة والرمزية للتعبير عن تجاربه وقصيدة (أستطيع الليلة...) تفيض بالغناء الزاخر بالحركة والافعال مثل (الليل يتشظى، والنجوم الزرق تتلامع في البعيد) وهي صور تعبر عن طاقة محتبسة تلهمه شعره.  يستفيد نيرودا في هذا النص من تقنيات شعرية مختلفة، منها الصورة، الجناس، التجاور، وتتكون القصيدة من صور الليل، وجناس الصوت الصحيح (أس) للتعبير عن هدوء الليل الذي من الممكن أن يكون جميلا وغادرا أيضا، وثمة استخدام للتجاور بين العواطف المصحوبة بالصفات التي توصل الينا رسالة مفادها أن رفض المرأة قد يكون هو سر الهام الشاعر لكتابة قصيدته، انه الالم الذي ينتج الشعر، والابيات الاخيرة للقصيدة توحي بما يشبه الرغبة في الانتقام الشعوري التي تقابلها هدية القصيدة التي تتحدث عن ذكريات حبه الغادر: في البعيد ثمة من يغني، في البعيد/ وروحي غير راضية لأنني ضيعتها/ نظراتي تبحث عنها كما لو انها تريد اللحاق بها / وقلبي يفتش عنها عنها، لكنها لم تعد معي / والليلة ذاتها بالبياض نفسه لكننا لم نعد كما كنا سابقا/ صوتي يبحث عن ريح تحمله ليلامس مسمعها.
 ولا يبدو الشاعر مدركا لحقيقة التجربة حتى بدأ بالكتابة عن الحب، انها فكرة الحب التي احبها أكثر من المرأة، ومن هنا تأتي ثقته بامكانيته على كتابة الابيات الأشد حزنا، وهذه المشاعر أصابت الشباب الذين كانوا يمرون بالتجارب العاطفية ذاتها ويستخدمون كلمات نيرودا للتعبير عن عواطفهم: هي الان مع حبيب آخر
صوتها، جسدها المشع، عيناها العميقتان 
لم أعد أحبها، بكل تأكيد، لكن ربما أحبها 
الحب قصير والنسيان طويل.
صور نيرودا سهلة الفهم وهذا ماقد يجعلها أقل جمالا لأنها لاتحفل بالنحت كثيرا، فهي تبدأ من (الشعر الذي يسقط على الروح مثل الندى على العشب، لكن التجربة العاطفية التي قد تبدو عادية بأبياتها الواضحة تصل الى مستوى عميق وشامل عندما تبلغ ذروة التعبير مداها (الحب قصير، والنسيان طويل).