يوسف المحمداوي
بيئة ريفية خالصة ينقلنا اليها الروائي والقاص حسن كريم عاتي، وهي الطبعة الاولى للرواية التي صدرت هذا العام من المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بـ (168) صفحة وزعها المؤلف بين ثلاثة مناصب ليضع روايته «الوقوف على ساق واحدة» في الجو والواقع الريفي لكون المنصبة «وجمعها مناصب»، وهي الأثافي التي يوضع عليها القدر لرفعه عن الأرض، وتوقد تحته النار، وهي في العادة ثلاث، لذلك حين قسمها الكاتب الى ثلاث مناصب ليطبخ منجزه على نار هادئة وعميقة ليقدم للقارئ رواية ريفية عايشت البيئة الحقيقية الصادقة والصادمة، لمن لم يطلع على علاقة الشيوخ بالفلاحين واستخدام أبشع انواع الاذلال والعبودية مع تلك الأسر المغلوبة على أمرها.
في المنصبة الاولى من الرواية بكلمات شاعرية يصف لنا الهور وطبيعته الخلابة وطيوره وجاموسه وأسماكه وبرديه وقصبه، فضلا عن علاقة الشيخ «المحفوظ» المريبة بعائلة (عرنوكه) والولد (خزيعل) والمولودة الجديد (فتنة)، المنصة الاولى تخصصت بعائلة (خشيّن) بالتحديد، لأن المؤلف أراد ان ينقل القارئ الى معاناة الفلاحين في تلك الفترة من شيوخ الإقطاع وقسوتهم وطمعهم الى حد الاعتداء على أعراضهم، كما ورد في المشهد المؤثر للولد (خزيعل) ومقدار الألم، الذي أصابه وهو يشاهد والدته بأحضان الشيخ، ولا ننسى اللهجة الجنوبية التي استخدمها الكاتب في الحوارات بين الشخوص، كمثال على حديث غرنوكة مع ولدها خزيعل وهي توقظه من النوم: (خزيعل يمه اكعد يا حزام ظهري اكعد)، (نام شويه واكعدك تاكل لكمه،عمت عيني يمه)، (ولك خشيّن الحكلي، خزيعل تسودن)، ولم ينسَ الكاتب النعاوي التي تشتهر به نساء الجنوب فيروي لنا على لسان غرنوكه (ياطارش الرايح لهلنا.. عيد الوصية واحجي عنا.. كلهم بهالعيشه امتحنا) وقبل أن يختم الكاتب منصته الاولى، تحدث عن ولادة غرنوكه لابنتها فتنه التي لا تشبه غرنوكة ولا والدها خشيّن، ومع ذلك بدهاء قالت القابلة ام غايب (صلن عالنبي، بيضه على جدة امها فتنة الجبيرة).
حديث المحفوظ والقابلة
وعن تلك الولادة ومبررات القابلة ام غايب يقول الكاتب:» لم تكن أم غايب بسن يتوقع معها مشاهدة جدة الأم، ولم تكن أية امرأة من جدات غرنوكة ببشرة بيضاء، ولكون الحدث غير مفهوم من دون فضيحة، أدركت النسوة، وهن يتغامزن، أنه التفسير الضروري للمرور من فوق فضيحة غرنوكه والمحفوظ»، وما يوضح ذلك هو الحديث الذي دار بين المحفوظ والقابلة ام غايب: - ام غايب بشري؟
- كمر.. كمر... ابنية تشبه ابوها!
- شنهي؟
-غرنوكه جابت بنت، بيضه على أبوها
ضحك المحفوظ: ابوها وجهه جنه ظهر جاموسة؟
ويختم الكاتب منصته الاولى بالحديث عن شكوك خشيّن بزوجته غرنوكه مرددا عليها: (صدك جدتج فتنه بيضه) لكن المحفوظ قطع دابر شك الزوج بالحديث معه وتأكيده على ان جدة غرنوكة كانت بيضاء.
معاناة بناء السد
ينتقل بنا عاتي في المنصة الثانية الى علاقة الصاحب بالمحفوظ، وطريقة الاذلال، التي يمارسها المحفوظ مع الفلاحين، ووصف المعدان بالجاموس الذي يرتدي الكوفية اثناء حديثه مع الصاحب، مما جعل الصاحب يرد عليه قائلا : «محفوظ ذوله زلمك، أذكياء وطيبون»، ثم ينتقل المحفوظ الى السياسة قائلا: يكولون بالعاصمة عصيان جديد؟
- مظاهرات، الدعاية المضرة والقوى الهدامة تستغل الطلبة والكسبة وتحرج الحكومة .
- الخوف توصل للفلح، انوب احنا نسرح بحلالنا!»
ثم ينتقل بنا الى السد ومعاناة الناس البسطاء من الجهد المبذول والخيزران الذي يدمي ظهورهم اذا ما تقاعس احدهم عن العمل، وتحملهم للاهانات التي تأتيهم من السركال او من عبيد المحفوظ.
أتت رسالة على لسان خزعل بن خشيّن بعثها معه الى والده يقول فيها: «بويه زغير وصاني أكلك خلها بتبنها وياك لا تذريها.. من ترفع المرواح يطلع البيها»، حين سمع خشيّن بالرسالة يصفه الكاتب «انتفض خشيّن ورمى من يده الطعام، جحظت عيناه، والتفت الى غرنوكه، نظر اليها شزرا التقت عيناه بعينيها، حاصرها بعينيه بأسئلة أكثر احراجا من أسئلة ولده، ارتجفت شفتاه، تململت غرنوكه في جلستها، ولم تجد أية أجوبة جديدة عن اسئلته القديمة».
مقتل المحفوظ
الروائي عاتي اختتم منصته الثالثة ايضا بعائلة خشيّن وكيفية قيام ولده خزيعل بقتل المحفوظ، بعد أن شاهد اهانة والده وسط الديوان، ذهب الى الصريفة واخرج بندقية أبيه وهو يصرخ :» يمه اطلعي، يوم ثارج يمه»،وسدد بندقيته واطلق الرصاص، وتفرق المسلحون، وهم يتفاجؤون بصوتها، لتنطلق صرخة من احد حوشية الشيخ:» انكتل المحفوظ، اكتلوالجلب شمتانين»؟.
ومع كل اطلاقة من خزعل كان يزداد تشتت المسلحين من أمامه ويتهيبون اقتحام الصريفة، نادى أحدهم وهو يلوذ خلف الصريفة:» بطل نفط واحركوا الصريفة عليه».
سمع صراخ والدته، وهي تشاهد النار داخل الصريفة، توقف صراخها، وانقطع الرمي من داخلها، فكانت الشمس تغيب من جانب المضيف، وتنير الصريفة المحترقة المكان الشرقي من السلف كما يقول الكاتب الذي امتعتنا روايته بمناصبها الثلاث وشخوص الرواية وابطالها، وهي اضافة كبيرة للمكتبة الادبية العراقية، فشكرا له على هذه الرحلة الممتعة في اهوار الجنوب أو الجنون لا فرق.