صادق كاظم
تظل انتفاضة اذار 1991 واحدة من اهم الاحداث السياسية في تاريخ العراق ،حين اصبحت اضخم واهم انتفاضة شعبية مسلحة واجهت نظام البعث الدكتاتوري الاستبدادي المجرم ،حيث سطر المنتفضون من ابناء الشعب العراقي البطولات الكبيرة من اجل التحرر من الطغيان والاستبداد الذي اتسمت به المؤسسة القمعية الحاكمة التي كانت عبارة عن نظام دكتاتوري قروي مغلق .
كان النظام البعثي الشمولي يحتكر السلطة والثروة ويجمعهما بيديه ويمنع اي قوة معارضة حزبية او سياسية مستقلة من العمل بحرية ،حيث كانت حرية الراي ممنوعة ولم تكن هناك صحافة حرة ومستقلة وكان انتقاد النظام ممنوعا واي شخص يجاهر برايه كان سيفقد حياته بالتاكيد .
شكلت الانتفاضة نقطة تحول في الصراع ،حين هزت النظام بقوة واسقطت حواجز الخوف منه رغم الاساليب القمعية المفرطة والجيوش الامنية الخاصة التي كان يمتلكها النظام وباعداد كبيرة في مواجهة اية حركات وانتفاضات مضادة كان يعلم جيدا بانها ستحصل يوما، حيث تحولت مشاعر الغضب نتيجة لسياسات الحروب المتواصلة التي ابدع النظام في انتهاجها من خلال الزج بالجيش العراقي الذي كان يضم غالبية ابناء الشعب العراقي في صفوفه من الذين انهكتهم الحروب التي كان يفتعلها النظام مرة ضد ايران ومرة اخرى ضد الكويت ،حيث شكل غزو الاخيرة البركان الذي تفجر بقوة لتندلع شرارة الانتفاضة بعد انسحاب قوات الجيش العراقي من الكويت، حين حطم جندي غاضب صورة الطاغية في احدى ساحات البصرة ليعلن بداية الانتفاضة التي انطلقت صفحاتها في غالبية مدن العراق شمالا وجنوبا .
لقد حققت الانتفاضة في بداياتها نجاحات ميدانية كبيرة ،حيث اصبحت غالبية المدن والمحافظات العراقية المهمة محررة من سلطة النظام وتمكن الثوار المنتفضون من السيطرة عليها ومن ثم التقدم منها نحو المدن والمناطق المجاورة.
كان لنقص الخبرة وعدم وجود قيادة موحدة للانتفاضة سياسية وعسكرية ومدنية ،اضافة الى ضعف الامكانيات المادية والعسكرية المتاحة لدى الثوار الاثر الرئيس وراء تاخر الزحف نحو العاصمة بغداد واسقاط النظام الديكتاتوري فيها الذي كان في البداية امرا ممكنا قبل ان تتدخل الارادات الدولية ورغبات بعض قادة دول المنطقة في ممانعة اسقاط النظام والقبول بوقف فوري لاطلاق النار والسماح له باستخدام طائرات الهليوكوبتر المسلحة فضلا عن فك الحصار عن خمس فرق عسكرية ضاربة من قوات الحرس الجمهوري التي كانت معزولة شمال البصرة والتي استخدمها النظام لاحقا في الزحف نحو المدن والمناطق المنتفضة المحررة وارتكاب ابشع المجازر وعمليات التدمير والتنكيل فيها.
كان انتقام النظام اجراميا وبشعا لابعد الحدود ،حين تمكنت قواته من اقتحام المناطق الثائرة وارتكاب اسوأ عمليات التصفية والقتل في تاريخ المنطقة ،حيث قتل اكثر من نصف مليون مواطن عراقي من النساء والشيوخ والاطفال وقسم كبير منهم دفنوا احياء في المناطق الصحراوية في مقابر جماعية ظلت لغزا قبل ان ينكشف بعد سقوط النظام المباد ، حيث فاق عددها الـ300 مقبرة على الاقل .
الانتفاضة سجلت شهادات على وحشية النظام وتجرده من كل نزعة انسانية ، حين اقتيد المواطنون الابرياء من منازلهم عنوة الى مسارح الموت الجماعي بلا رحمة وقسم اخر منهم وضعوا في سجون سرية بالقرب من قصر النظام الجمهوري الرئيسي في منطقة الرضوانية ليتفنن جلاوزة النظام ورموزه لاحقا بقتلهم وتعذيبهم والتمثيل بجثثهم .
لقد اهدر النظام ثروات العراق في مغامرات وحروب لم تكن لها نهاية واضحة ومعروفة وكلفت الشعب العراقي الكثير من الخسائر والتضحيات التي لا مبرر لها ،حيث لم يكن النظام ورمزه الدكتاتوري مهتما بتطوير العراق وشعبه واسعاده بقدر اهتمامه بقمعه وابادة مكوناته باستخدام السموم والاسلحة الكيمياوية وكما حصل فعلا في الاهوار وحلبجة ،بل كان النظام حريصا على افقار العراقيين وحرمانهم من ابسط مستلزمات العيش والحرية، حيث لم تكن هناك مشاريع للسكن او البنى التحتية وغالبيتها كانت تعود الى فترات السبعينيات من القرن الماضي وكانت رواتب الموظفين لا تكفي لسد ابسط متطلبات العيش الكريم بينما كان النظام واعوانه يتمتعون بالحرير والاموال في قصورهم الفاخرة والمعزولة .
لقد جسدت الانتفاضة تاريخ الشعب العراقي العريق في مواجهة الظلم والاستبداد والوقوف بوجه الطغاة من دون خوف ومهما كانت التضحيات، حين رفض العراقيون القبول باستمرار الواقع المرير والمؤلم وقرروا حينها رفع السلاح من اجل الحرية والثورة والتغيير رغم النهاية المحزنة والمؤلمة ،لكنها تبقى ربيعا عراقيا سابقا في المنطقة قوض اركان النظام واضعفه ومهد الطريق لسقوطه لاحقا وبعد اكثر من 12عاما من اندلاع الانتفاضة.