في ذكرى الشاعر خالد ثامر البدري.. مرثية اليوكالبتوس

ثقافة 2021/12/08
...

 عقيل فاخر الواجدي 
الحديث عن الشاعر خالد ثامر البدري ( 1981 - 2000 ) ليس حديثاً عن فترة زمنية محددةٍ، تمتدُ لما يقرب من خمس سنوات جمعتنا معا فحسب، إنما هو حديث عن إنسان وحضورٍ يشدُّك إليه بيسر، تواضعه وخجلـُه سمتانِ متلازمتانِ ماانفكتِا عنه مدة معرفتي به، يحيطك بالاحترامِ ويمنحكَ إصغاء يندرُ أن تجده عند غيره، إنما هو احترامٌ لذاته ونفسهِ المجبولة بالطيبة واحترام الآخرين.
 
الحديثُ عن خالدٍ هو حديثٌ عن الطموحاتِ التي لا تنتهي والرغباتِ التي لا يعيقُها اليأسُ، يدهشك بطموحاته التي لم تكن كلماتٍ يسطّرها على الورقِ وتنتهي، أو مجردَ أحلام يقظةٍ اعتاد نسيانَها كما الآخرين! كان حثيثُ السعيِّ في أن يكون، لا يحبُّ الهوامش من الأمور، فحتى وجوده في بداياتِ اهتمامه بالشعر والأدب بين ثلّةٍ ممن هم أكثر منه خبرةً واكبرُ منه عمرا في أن يجد له مساحةً تليق به في أقل وقت.
خالد كان رهاني في أن يكون سيّابَ الناصريةِ، يغنّي فراتَها وبطحاها كما غنّى السيّابُ جيكورَهُ وبصرَته، كان من الوعي بما يفوقُ سنيّهِ الغضَّة، لم يلتفت إلى ما كان يعيشُهُ اقرأنه من بعدٍ عن كلِّ ما يتصلُ بعالم الأدب، بل والكثيرون ممن هم اكبرُ منه ممن لا يجدون في القراءة والمتابعة إلاّ مضيعةً للوقتِ...
الوجه الأدبي من خالد هو الأقرب لي من سواه رغم أنه في كثير كان يحدثني عن أمور خاصة في حياته، منطقة الشعلة التي كان يقطنها قبل أن يغادر مرغما إلى البطحاء هي المنطقة الأحب إليه، هي المنطقة التي قال عنها ( إني تركت فيها قلبي وتركتها مرغما) ومن منا لم يفهم ما قصد خالد من هذا!
 
ثورة لغويَّة
من خلال مجموعة من قصائد شاعرنا الشهيد خالد ثامر البدري التي نستعرضها ليس من باب نقديٍّ أكاديمي بقدر ما هو الولوج إلى كنه شاعرنا من خلال ما كتب، فمن كتاباته نطل على جزءٍ مهمٍ من حياته، فقصائدُهُ هي صورةٌ لواقعه وشخصه تمثلت من خلال انتقاءٍ أنيق للمفردات وصورٍ بغاية الروعة التي تنبئ عن ذهنية متفتقة متقدة، وهذا لم يتأت من فراغ، فقراءاتُه المتنوعةُ في مجالات شتى منحته القدرة في تكوين صورٍ ذات مغزى واسلوب يحاكي به المتمرسين في هذا المجال.
لذا فالدخول إلى عالم الشهيد خالدٍ المعرفي المتمثل بمجموعة القصائد التي أنتجها والتي تنوعت عناوينُها وأساليبها تعطيك انطباعا أوليا عن جدية اهتمامه بهذا الهم الأدبي والذي منحه مساحة واسعة من حياته، فكان للمتنبي والجواهري وللسياب وقباني وللرصافي والزهاوي مساحة من شغفه، ليكوّنوا النواة الأولى لشجرة لم يمنحها الوقت إن تفرد أغصانها بعيدا، قراءاتُه منحته أن يكون شاعرا مفوّها وذا ثروة لغوية كبيرة، وان كنت أراها فيه (ثورةً لغويةً)، فقد كان ثائرا بذاته من غير أن يجد أحدا يحثه لذلك! إنها ثورةُ الإنسان الذي رفض واقعَهُ فتبنّى واقعا أكثر حضورا عنده من خلال قصائده التي وضع أولى لمسات الثورة في طيّاتها، إنها قصائد مخضّبة بانفعالاتٍ إنسانية مرهفةٍ توزعت بين الحزنِ والألمِ واليأسِ وبصيصٍ من نورِ جاهد ألا يختفي من سمائه، سمة التفاؤل فلم يكن محبطا بقدر ما كان حزينا أسِفاً أن يكون الوضعُ هو ما عليه، ملَكَ من الجرأة في الطرحِ ما لم يملكه غيره في أيام كانت تعدُّ الأنفاس فيه والحروف الثائرة، لا بد أن تُوْأدَ هي وصاحبها، لكنه لم يكن ممن يخافُ أو يفكرُ إلى ماذا ستؤولُ الأمور!
 
قرص النسيان
لو لم يكن لخالدٍ غير هذه القصيدة لكفتْهُ أن يتجلبب لباس الشعر بجدارة، إنها منديلُ ساحرٍ يفاجؤك في كل لحظة بما لا تتوقع، ينسابُ بك كقاربٍ تدفعه أمواج الرغبة ليصل إلى ضفةٍ أخرى!
إنها قصيدة استثنائية من كل ما كتب خالد، ارتكزت على أبعاد لغوية وموسيقيةٍ في غاية الجمال، قدرةٌ على خلق الانسجام بين الكلمات حتى تخال أنها خلقت بهذه الكيفية.
قصيدة ( قرص النسيان ) من يظنها قصيدة تدعو للتناسي، فهو لم يصل إلى جوهر ومبتغى شاعرِنا الشهيد، إنه الشاعرُ الذي يرمي البرك الساكنةَ بأحجار الاستنهاض ويمنح خوف الإنسان قرصا من النسيان.
 
عشبة الخلود
لقد دوّن لنا خالدُ الجزء الأهم من حياته من خلال قصائده التي كانت بمثابة نبوءةٍ لما سيكون عليه غدُه، إنها قصائد الصراع بين حقائق لا يلتفتُ إليها إلاّ من عرفهُ عن قربٍ أو تلمّسَ الغربةَ التي كان يعيشها، ولادةٌ وفناء، فزهورهُ التي نبتت على بقايا الخرابِ هي اضاءةٌ عن مدى تشبثَ شاعرُنا بالحياة رغم كل ما يحيطه، لم يكن انهزامياً البتةَ، بل جانحٌ نحو الغدِ باحثاً كأسلافه عن عشبة الخلود، فكان خالد بذاته عشبة خلود أحيت بداخلنا ذكراه التي لا يمكن للأيام أن تمحوها، وقصائدَ سنغنّيها إلى الأبد.
محاولاتُ قتل الوطنية في نفوس العراقيين أسلوب انتهجهُ النظام الزائلُ من خلال شعاراتِهِ الزائفةِ والملغومةِ بالخيانة، حتى أصبحت كلمةُ الوطنيةٌ تثير الاشمئزازَ والقيءَ عند سماعها، بل أصبحت هذه الكلمة رديف مصطلحات نزقةٍ استباحت كلَّ ما هو جميل في هذا العراق، أصبحت هذه الكلمة رديف (الولاء المطلق للبعث وان تكون سيفا مصلتا على رقاب من حولك)، لكن كل هذه المحاولات لم تنزع روح الوطنيةِ من قلوب البعضِ ومنهم شهيدُنا خالد، فقد كان دائمَ الهمِّ لم يحل الفهم العام لكلمة الوطنيةِ دون أن يكتب للناصرية، لبغدادَ، لفلسطين، بل تعداه ليكتب عن اطواد الحرية في العالم كجيفارا وجميلة بوحيرد المناضلةِ الجزائريةِ التي قاومت الاحتلال الفرنسي، فكان يغنّيها في قصيدته.
(رسالة إلى الآنسةِ بو حيرد) عن لسانها:
أجمعُ أحلامَ الذين يرحلون
وملتقى الأوهام في الضمائرِ
نموت في مرافئ الفضيلةِ
ولم أنمْ في لحظةٍ
تحتَ غطاءِ شهوةٍ مذلةٍ
كنتُ فتاةً ذاتَ طولٍ فارع
ومقلةٍ عميقةٍ كنهرِ دجلةَ الجميلة
قرأتُ جيفارا وعشتُ ثورتَه
نظمتُهَ أنشودة عظيمة
سرعان ما غاضت فرنسا مقلتي
فاحتجزتْ حريتي لأنني
رفضتُ أن أكون سلعةً مباعة
أو جسداً مباحةً مفاتنَهُ
حُبستُ في ظلام (ألبيار)
أُغرقتُ في الغطاس
عوملتُ بـ(النقيفة)
ولم (يفتهم) أنني عذراء
فحاولوا أن يسرقوا بكارتي
إذ وضعوا قارورةَ بفخذي المرصوف كالحجارة
ليجعلوا من جسدي
كمومسٍ أجيرة حقيرة
أنا التي،
لم أجعل الأعوام تدنو جسدي بشهوةِ الحقارة
يا وطناً مسلوبةً خرائطه
إني هنا
في هذي السجون ارتدي
بقيةً من عزتي المهانة
بين ضياع الوقتِ، في خمول سيفك الصليلِ
إني هنا
جيلٌ تهاوى أملا
 
بين لجّة الكلمات مضى بنا خالدٌ يعبُّ غمار طموحاتِهِ وأمنياته التي تفتقت عن واقعٍ جاء متأخرا، لكننا نخبرك يا صديقي بأن أحلامك استحالت حقيقةً، وأصبحت النارُ تنتفض من رمادها، عادت الشمس تتسلق أسيجة الظلام، وعدنا ندرك كم أن الوهم كان معششاً في نفوسنا، حيث آمنا بقوة وجبروت ذلك النظام الذي تهاوى من صفعة واحدة، لكنما هذه الصفعةَ يا صديقي ليست من أيدينا، لذا لا أُخفيك أن تكون الصفعةَ الأخرى لنا لنتكور كالقنفذ تدوسه الأرجلُ ولا تُبالِي!
رحمك الله يا صديقي
 - الشاعر خالد ثامر البدري من مواليد الناصرية 1981 توفي في السجن بعد اعتقاله وهو يحاول مغادرة العراق عبر الحدود السورية عام 2000 بعد أن ضاق ذرعا بكل ما حوله.
-  عضو رابطة الشعر العربي في الناصرية.
- له مجموعة مخطوطة، وحاصل على جوائز عديدة في مجال الشعر.