ثكنات طفلة

ثقافة 2021/12/18
...

 هاجر الدرويش
 
بِمَ سيُشعرك وضع أن تكون بلا أب، سؤال طرحته على نفسي أثناء اجتيازي جمعية للأيتام، ويوحي لي اسم تلك الجمعية ذو الطابع المذهبي الواضح، إلى أنه أحد تلك المؤسسات التي وجدت لسرقة الأيتام بدلا من دعمهم، عبر استدرار عواطفنا أو بحالة أسوأ، يتمنا الداخلي!، ذلك اليتم الذي يجعلك تدير كل مقبض تواجهه على أمل أن يكون خلفه أب!، وبالعودة إلى السؤال الذي طرحته على نفسي، شعوري حيال أن أكون بلا أب، كنت سأشعر بأن العالم أسرة كبيرة مفككة!، ولقد تشعب بي إحساس عارم باليتم وتخللتني قشعريرة طفولية إزاء فكرة الأبوة المهزومة، ومن جديد، شعرت بأنني أبحث في ثكنات طفولتي عن أب ولما يتعبني ذلك البحث أجلس القرفصاء في أكثر زوايا ذاتي ظلمة، ذلك أن الظلمة ترادف شعورا متخيلا للدفء، دفء افتقدته دائما لأنني دائما ما خبّأت مصباحا في ثنية من ثنيات نفسي مثل حالم متجول، ويجيء ذلك التهيؤ إجراءً احترازيا إزاء فكرة مصادفة أب أو ما يصلح لأن يكون كذلك، أب غير بيولوجي ربما.. 
وقد أقضّ ذلك الحلم مضجعي لدرجة أن زوجي الخائف من الحلم الذي يطل من خلف عيني على العالم، كما تطل صبية مزهوة من نافذتها على زقاق متزمت.. كان قد أخذ على عاتقه مهمة تصفية عوالمي السريَّة.. إلا أن رغبته تلك كانت تدفعني عفويا لأن أغلف نفسي أكثر وقد يتساءل أحدكم عما يجعل امرأة ثلاثينية تركن لبنوتها القديمة مثل طفلة.. ذلك أن أبي كان قد هرب من حياتنا وارتأى لنفسه حياةً أخرى، وقد جعلني هروبه ذاك يتيمة إلى الحد الذي يتفشّى في مفاصل العالم ألم حاجتي إلى أب كان دوما شخصا آخر عدا أبي!!، ثيمة غير تلك الثيمة التي وجد عليها أبي، ورغم ذاك فقد كنت لسنوات أحيل نفسي إلى شبكة كثيفة من المجسات في سبيل البحث عنه رغم أن هذا التحول يجيء على حساب مجموعة احتياجاتي كإنسان متزن.. لكنني بعد أن عثرت على عنوانه صار ما يفصلني عنه أكبر من مسافة، ما يفصلني عنه هو رغبته القديمة في الابتعاد.. أثناء ذلك كنت قد وصلت إلى منزلي.. منزلي الذي أختار أن أعود إليه مشيا رغبة مني في تأجيل الوصول إليه، أقف الآن على أعتاب ذلك الباب، باب بيتي ولا أجد ما يفتحه، خيل لي أنني ضيف جريء أو أسوأ، شحاذ اعتاش على موارد بيت لفترة طويلة لدرجة أنسته صاحب البيت الحقيقي ثم تواطأ الآخرون مع إحساسه في انتمائه الجديد للبيت.. إحساسه كمالك حقيقي لدرجة أنه صار يبحث بين متعلقاته عن مفتاح.. لكن الباب كان موصدا من الداخل بتركيبة غير ميكانيكية.. شيء أبعد من مفتاح، شعرت وأنا أدير مقبض الباب أن ثمة قوة توازي قوتي التي أحرك بها المقبض، تمسك به وتصد محاولاتي للدخول! كان البيت يرفضني كأن ما يقبع خلفه ليس أثاث حياتي الآنية بل أب هارب ليس لديه ما يواجهني به.. عند ذلك الحد، اندفعت صبية صغيرة كأنما خرجت من العدم وهرولت باتجاهي وهي معصبة عينيها عن دمعة عنيدة وجرتني بعيداً عن الباب.