الكذب السردي أو السرد الكاذب

ثقافة 2021/12/19
...

 كمال عبد الرحمن
ترى بعض الطروحات الحديثة أن السرد وبخاصة الرواية لا ترتبط بالحقيقة ومنها التاريخ، لكون الرواية فن سردي، فهي تنشد إقامة صلة مع العالم بواسطة التمثيل، وفيه يترتب شأنها، بداية من التفكير بها وصولا الى تلقيها، مرورا بكتابتها وتأويلها. وموضوعها الإنسان في أحواله المختلفة، وقد آل إلى مخلوق سردي يعيش الحياة كما يعيش نظيره الإنساني الدنيا.
 
ولا يراد بهذا القول بأنّ الرواية تستنسخ العالم، فالأصوب أنها تتولّى تمثيل أحداثه المتناثرة بحبكة تجعله قابلا للإدراك والفهم، باقتراح صور لفظية دالّة عليه، وبذلك تُسهم الرواية في إثراء فهم العالم، ولكنّها ليست مرآة له؛ فعالمها الافتراضي ينبّه القارئ إلى ما في عالمه من تجارب وخبرات، وأحلام وأوهام، وأخطار جسيمة، ومسرّات عظيمة؛ فتلتقط ما غاب عن الإنسان في العالم، وما ظلّ جاهلا به لقصور في حواسّه، أو لأنه غير قادر على استيعاب صوره المتفرِّقة، فتتولّى هي إعادة تشكيلها بما يلبّي حاجته للمعرفة، وقدرته على الإدراك. وسواء قامت الرواية على التخيّل الافتراضي، أو أنها اعتمدت البحث وسيلة لها، فقصدها اختزال العالم إلى جملة من الصور السردية التي تساعد القارئ على استكشاف ذلك العالم كما يقول عبد الله ابراهيم.
بينما هناك من يرى أن الرواية ترتبط بالتاريخ ارتباطًا قويّا، فهي أقرب الفنون الأدبيّة إلى التاريخ، فكلاهما يقوم على السرد، والاهتمام بالأحداث والشخصيّات. وإذا كان التاريخ حكاية الماضي فإن الرواية حكاية الحاضر، ومن هنا يلجأ الروائي أحيانا الى الغوص في أعماق الأحداث التاريخية للبحث عن حقيقة ما وقعت هنا أو هناك. فلا عجب أن يلجأ الروائي إلى حضن التاريخ فيجعل أحداثه مادة لصنع عالمه الروائي، بذلك نشأت الرواية التاريخيّة التي عرفت محطاتها الأولى عند الغرب ــ كما يرى جورج لوكاتش ــ في القرن التاسع عشر، وإن عثر على روايات ذات موضوعات تاريخيّة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكانت أولى الروايات التاريخيّة رواية ويفرلي 1814 لوالتر سكوت الذي يعد أبا الرواية التاريخيّة. ثم توالى صدور الروايات التاريخيّة، فظهرت في فرنسا رواية أحدب نوتردام 1831 لفيكتور هيجو، وفي روسيا الحرب والسلم 1865 لتولستوي، ثم في نهاية القرن العشرين ظهرت رواية اسم الوردة لامبرتو إيكو. ثم رواية القاتل الضرير التي نالت عليها صاحبتها، الكاتبة والصحافية، إيريكا فاجنر جائزة البوكر عام 2000. فاذا كانت الرواية فن الكذب السردي، فكيف بإمكانها أن تعيد كتابة التأريخ؟، ومع هذا فيؤكد نظرية الكذب السردي عدد من العلماء والنقاد، إذ يقول «دريدا»:»يمكننا أن نتخيّل ألف حكاية حول الكذب مختلقة، وألف خطاب مثقل بإمكانات الإبداع، تتمحور كلّها حول المظاهر الخدّاعة والخرافة والأسطورة، وإمكانية خلق أشكال جديدة للتعبير عن الكذب من دون أن تكون حكايات كاذبة؛ أي ما يمكن تسميته حكايات منافية للحقيقة، ولكنها تبقى بريئة، ولا تحمل أيّ أذى، وتجسّد مجرّد ظواهر خدّاعة كاملة للحنث وشهادة الزور، ألا يجوز لنا رواية حكايات بخصوص الكذب لا تحمل أيّ ضرر رغم ابتعادها عن الحقيقية؟، حكايات خرافية حول الكذب، والتي فضلا عن عدم إلحاقها أي أذى بالآخرين، فهي قد تثير الإعجاب عند بعضهم، بل وقد تحمل لهم منفعة».
وهذا يعني أن الأدب كذب، وأيضاً حقيقة مزيفة، فلطالما صعب تحديد هوية الأدب تحديداً منطقياً، ذلك أنه هو ذاته لا يخضع لمنطق معين. والدليل أنه هو الآخر صاحب النيات المتقلبة بين ما هو سيئ وما هو غير ذلك. إن العديد من الشخصيات المنحرفة والشاذة تتحدث في محرابه بحرية لأنها في منطقة الأدب، والعكس صحيح. ونستمع الى رأي دوستويفسكي  في فصل صغير بعنوان «لا ينقذ الكذب إلا الكذب» في كتابه «يوميات كاتب» تطرّق فيه لأهمية الكذب السردي في رواية «الدون كيخوته» التي تقوم بكاملها على الإمعان في توهّم أمر لا حقيقة له، وخلص إلى أن «الكذب ضروري من أجل الحقيقة، فكذب على كذب يفضي إلى الحقيقة».
إنّ مجانبة الصدق، والايهام بالحقيقة، تغذّي الكاتب بأحد أسرار الكتابة السردية، والإغراق في الكذب السردي يضفي صدقا على الوقائع، فتتلّون التجارب السردية بألوان متعدّدة، وتأخذ مكانها في نسيج النصّ بأساليب متنوّعة. وفي التعبير عن هذا المعنى، قال «موراكامي»، إن «الروائي هو محترف سرد الأكاذيب»، وهو ما انتهى إليه «كالفينو» بقوله «إنّ الروائيين يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في قاع كل كذبة». وهذا ارتياب صريح بمصداقية من يدّعي قول الحقيقة من كتّاب الرواية وهناك من يقول «لديّ شكوكي الكبيرة تجاه الكتّاب الذين يدّعون قول الحقيقة الكاملة عن أنفسهم، وعن الحياة، والعالم بأسره، وأفضّل البقاء في جانب الكتّاب الذين يحكون عن الحقيقة، وهم يكشفون عن ذواتهم، باعتبارهم أعظم الكذّابين في العالم».
أما الفيرجوالية فهي كلمة تعني العالم الافتراضي. لكن هذا المصطلح العلمي التقني الذي استنبطه الروائي من مفردتين إنكليزيتين، هو قريب من حيث اللفظ والمغزى من مصطلح طبي يسمى (متلازمة فيرجولي): وهو نوع من الاضطرابات النفسية النادرة، التي توهم الشخص أنه يرى جميع الناس شخصاً واحداً، فأي شخص يقابله سواء يحبه أو يكرهه هو الشخص نفسه. وهذه المقاربة التي ربما تكون قد حدثت مصادفة في العنوان، هي مماثلة لجزء من السلوك النفسي للبطل، الذي اعتمد على الشك والريبة والميل الغرائزي مع كل المتحاورات.. لكن يبقى ما أشار اليه الروائي في تعريف العنوان هو الأساس في تعاطينا مع النص وعنوانه.
كما أن العالم الافتراضي، الذي يزج الروائي أبطاله فيه، من خلال مواقع التواصل الابداعي ونوافذه التي تتيح للمستخدم التحاور مع الآخرين بكل حرية، إذ تظهر ممكنات النص وأدواته الفاعلة والمؤثرة، التي تشكل دعائم رئيسية للفن الروائي التقليدي، واعتماده على الخيال والافتراض فقط في إيصال ما يريد، مستخدماً لغة حداثية، وقد يكون الكذب سردي حقيقة وقد لا يكون، فثمة العديد من أجناس الكتابة التي تمظهرت حديثا كالسيرة الذاتية والرواية التاريخية وما تسمى بروايات الأجيال، كلها تعمل على الصدق السردي، ومع هذا فتشاكل الرأيين المتعالقين المتخالفين يؤسس لمرحلة من جدلية النقاش الجاد حول صدق السرد أو كذبه وليس لنا أو علينا سوى الانتظار.