الروائي والمدينة

ثقافة 2021/12/19
...

  حميد المختار
 
حسناً فَعَلَت إدارة «معرض العراق الدولي للكتاب» حين جعلت هذا المعرض باسم الروائي العراقي الكبير (غائب طعمة فرمان)، وفرّدت لروايته (النخلة والجيران) مكاناً بارزاً وصار العنوان الكبير هو الروائي والمدينة.
وأقيمت على هامش المعرض الكثير من الندوات التي تدور موضوعاتها حول الكتاب وعلاقة الناس به، وغائب طعمة فرمان وعلاقته بالمدينة وهي الندوة التي أدرتها بحضور ثلاثة من النقاد الكبار وهم، (الدكتورة نادية العزاوي والدكتور عبدالحسين الهنداوي والدكتور جمال العتابي)، وقد افْتَتَحْتُ الندوة بمقولة مهمة للروائي التركي وصاحب جائزة نوبل في الأدب (اورهان باموق) الذي يقول: «سيذكر النقاد ذات يوم قائلين: ها هو باموق يفعل لاسطنبول ما فعله جيمس جويس لمدينة دبلن في رواية (يوليسيس)، والحال أنني وأنا أكتب هذا الكتاب (كتاب اسطنبول) كان يجول في رأسي طيف جيمس جويس وأفكر في ما فعله بمدينته وقد نظر جويس إلى مدينته كما أنظر الآن إلى مدينتي باعتبارها مدينة تقع على هامش أوروبا أكثر مما توجد في نقطة المركز منها»، ثم يكمل قائلا: «حين يخامرك هذا الشعور سيكون من شأنك على الفور أن تسحب مدينتك من زاويتها الهامشية المعتمة ولتجعلها تبدو وكأنها باريس بلزاك أو لندن تشارلز ديكينز بمعنى أنها على الفور ستعثر على مكانتها في خريطة العالم الأدبي».
إلى هنا والحال هو ما سينطبق على الروائي الراحل (غائب طعمة فرمان) وأنا واثق أنه حين كان يكتب عن حَواري وأزقة بغداد كان ثَمة الكثير من الطيوف لروائيين عالميين وعرب كتبوا عن مدنهم ربما ابتداءً من (جيمس جويس وأورهان باموق إلى نجيب محفوظ)، وربما محفوظ اقترب كثيراً من فرمان على اعتبار أنهما أبناء المدينة وحواريها وأزقتها وأنهما كتبا معظم رواياتهما عن تلك المدن بعيداً عن القرى والأرياف، لهذا ربما يمكنني القول بأننا ككتّاب أجيال متأخرة تفاعلنا أكثر مع هذين الروائيين وأشباههما؛ أولئك الذين كتبوا عن مدنهم وأخلصوا لها.
في معظم رواياتي وقصصي وبعد أن مررت بالكثير من الروايات العربية والعالمية التي جعَلَت من المدن مسرحاً للأحداث ونشوء الشخصيات وصراعها، كنت أرسم من خلال وعيي ولا وعيي أيضاً كل جغرافيات مدني التي مررت وعشت بها ردحاً من الزمن، ابتداءً من مدينة الثورة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وصولاً إلى ثمانينات الحرب المدمرة، ثم يبدأ تاريخ مدينة الحرية الذي استمر إلى منتصف التسعينات لتبدأ رحلة جديدة باتجاه مدينة الحسينية، ولو أنني لم أُسمّي المدن بأسمائها ولكنها كانت واضحة للقارئ الذي يتابع حركة المكان المتزامن مع الحدث وتنامي صراع الشخصيات، بينما نجد الرواية العالمية ومنذ بداياتها الجادة على يد «بلزاك وإميل زولا وتشارلز ديكنز ودوستويفسكي»، يقدمون مدنهم ويجعلونها قريبة من الوجدان العالمي .
وثمة نوع آخر من الروائيين يكتبون عن مدن غير مدنهم ولكنهم أحبوها وعاشوا وماتوا فيها، إذ قدم (لورنس داريل رباعية الاسكندرية)، وكذلك الأمر مع (فاولز) الذي كتب عن طنجة وهذه بالتأكيد استثناءات عن حب المكان البعيد، لكن تبقى الحالة ثابتة لجميع الروائيين الذين أحبوا مدنهم وأخلصوا لها؛ (غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا»)، ( بول أوستر وثلاثية نيويورك )، (جبرا ابراهيم جبرا وكتاباته الكثيرة عن بغداد، صيادون في شارع ضيق مثلا)، (غالب هلسا وثلاثة وجوه لبغداد)، (محمد شكري وكتاباته عن طنجة في الخبز الحافي)، (عبدلله صخي في رواية خلف السدة)، (طواحين بيروت لتوفيق عواد)، وهناك الكثير من الأمثلة لا يسعها المكان هنا، ولكن تبقى الرواية هي المجال التوثيقي للمكان وعمارته بحيث أنها تؤسطره وتدخله إلى مكان آخر لا يشبه حالته الأولى كما فعل (فاضل العزاوي في رواية مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة)، أو كما فعل (جمعة اللامي في قصص، أليشن والثلاثيات ومن قتل حكمت الشامي)، وقد يدخل الصديق (شوقي كريم حسن) في روايته الأخيرة «لبابة السر» حيث الغور في الأسطورة واستجلاب روح الحضارة الأولى وصولا إلى واقعنا المعيش .
الموضوع كبير ومهم ويستحق منا جميعا الكثير من الوقفات الجادة التي تؤرخ للمكان والمدينة تحديداً في سيرورة الرواية العراق.