حقوق الجيرة في التقاليد الموصليَّة

ثقافة شعبية 2019/03/10
...

أزهر العبيدي
سادت في العقود الماضية في المجتمع الموصلي تقاليد وأعراف عريقة زال بعضها في الوقت الحاضر بتأثير عوامل الحداثة أو لتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتغير أخلاق وطباع بعض الناس بالدرجة الأولى. ومن هذه التقاليد الزائلة هي مراعاة حقوق الجار التي كانت من أهم التقاليد التي توحّد المجتمع الموصلي وتزيد من ترابطه وتعاضده.
ولعل طبيعة بناء البيوت في ذلك الزمان في نسيج مترابط غير مفكك ساعدت على قيام تلك العلاقات الاجتماعية الجيدة وتعمقها، إذ كانت البيوت الموصليّة القديمة متلاصقة كالجسد الواحد، وقد يربط بين بعضها وبخاصة التي تملكها أسرة واحدة نفق أو ممر تحت الأرض يربط بين سراديب البيوت يسهّل مرور النساء خلال النهار دون الخروج إلى الزقاق. وقد يكون في معظم البيوت منفذ صغير (طاقة) أو (روزنة) بين بيت وآخر تتبادل فيه نساء البيت الأحاديث يومياً، وبالصوت فقط إذ كان هذا المنفذ مرتفعاً على الأغلب.
وعلى العموم فقد كانت الأسر الموصليّة تعيش حالة ترابط اجتماعي وألفة ومحبة قلّما نجدها في الوقت الحاضر في الأحياء الجديدة التي تنعزل فيها الأسرة داخل جدران البيت الأسمنتي المغلقة. وزاد في حالة التفكك وفود أعداد كبيرة من الزاحفين من خارج المدينة والذين تختلف عاداتهم وتقاليدهم عن الأسر الحضريّة. فأصبح الجار لا يعرف من يسكن بجواره إلّا عندما يشاركه في جنازة أو حضور فاتحة لغرض تأدية ما يُسمّى (الواجب) فحسب.
وكانت هذه العلاقات الطيبة تترجم إلى ممارسات يومية يتشارك فيها الجيران ضمن الزقاق الواحد، فتساعد الأسرة جيرانها عند الحاجة في أعمال البيت، وفي المناسبات الكثيرة من أفراح وأحزان، ولا تتوانى الأسر من طلب أي حاجة من جيرانها لا تتيسّر لديها مثل الأواني الكبيرة من صواني وطشوت وقدور عند عمل المعجون وغسل الحنطة، ومن كراسي و(قنفات) و(طبلات) و(مناسف) و(فرفوري) في المناسبات. 
وكان التزاور بين نساء الأسر يكاد يكون يومياً مما يوطد العلاقات الطيبة ويزيد من الألفة والتعارف، وقد يؤدي إلى قيام علاقات زوجية بين جارين بعد أن يطلع كل جار على أحوال وأخلاق جاره ويتعرّف على أبنائهم وبناتهم. وفي هذه الزيارات يتم تبادل الأحاديث التي لا تخلو من القيل والقال، وقد تتعلّم ربّة البيت أو البنات بعض الأمور البيتية من الجيران الجيدين عن ترتيب البيت ونظافته والطبخ والخياطة والتطريز. وتحاول البنت إظهار شطارتها عند الجيران لكي تكسب رضاهم ولكي يقولوا عنها إنّها (معدّلي) و(أم بيت).
وتتعاون الأسر في الأعمال اليومية والموسمية مثل أيام (الفرش والشلع) في بداية فصل الشتاء ونهايته، مما يتطلب جهوداً كبيرة في رفع السجاد الثقيل الوزن والحصران والمطارح 000 إلخ. وكذلك في أيام (المونة) عندما تجتمع عدة بيوت حول قدر السليقة، ويقوم الكبار والصغار بإيصال السليقة إلى أسطح البيوت بعد نضجها بالسطول والطوس. ثم تشرع أسرة أخرى في السلق حتى تكمل أسر الزقاق كافة هذه العملية الشاقة وسط أهازيج ولعب الأطفال وهم يتلذذون بأكل السليقة مع الملح. وهكذا تستمر الفعاليات عند جرش البرغل وتقطيع الرشتة وعمل المعجون وعمل الكليجة وغسل وتنقية الحنطة الخاصة بالخبز.
وفي الأفراح والأحزان كان الجيران يقفون وقفة رجل واحد في إسناد بعضهم الآخر، فتنقل الكراسي الخشب والخيزران وأطقم القنفات والمناضد والطبلات إلى البيت الذي يقام فيه الفرح أو الفاتحة، فضلاً عن الفرش من مطارح وشراشف ووسائد وجودليات وجواجيم. ويتعدى ذلك إلى تقديم الأواني الزجاجية والخزفية والملاعق، وكذلك المناسف والقدور والصواني الكبيرة الخاصة بالمناسبات. وعند انتقال الأسرة إلى بيت جديد يعد الجيران لهم الطعام ليوم كامل لكونهم في حالة لا تسمح لهم بالطبخ، وفي الأحزان يقدم الجيران الطعام لمدة ثلاثة أيام إلى البيت الحزين. وتوزع البقلاوة والشكرلمة بمناسبة الزواج والختان، والحلاوة مع الخبز و(الزبيبيي) في الأحزان. ومن العادات الكريمة التي كانت تمارسها الأسر الموصليّة هي عادة تبادل إهداء الأطعمة المسمّاة (طعمي) وبخاصة خلال شهر رمضان المبارك، مما يولد حالة من الألفة والمحبة والمشاركة، كما تقدم الأسر الموسرة طعام الإفطار للأسر الفقيرة.
وكان الرجال يمتنعون عن التواجد على سطوح المنازل والجلوس في الأزقة لأي سبب كان لكي لا تقع أنظارهم على نساء الجيران، وفي فصل الصيف يكون الرجال آخر من يرتقي السلالم في الظلام، وأول من ينزل عند أذان الفجر لأداء الصلاة وإكمال نومهم في الحوش أو الذهاب إلى أعمالهم مباشرة. ويلعب أطفال البيوت المتجاورة في الزقاق مع بعضهم يومياً ألعاباً مختلفة، وقلما يتشاجرون أثناء اللعب إذ تسرع أمهاتهم إلى إدخالهم في البيت وغلق الباب. وسرعان ما يعودوا إلى حالة الوفاق واللعب من جديد في اليوم التالي بعد النصح والإرشاد الذي قدم لهم من والديهم بضرورة احترام الجار وعدم إزعاجه، فقد أوصى النبي محمد (ص) بالجار حتى كاد أن يورثه.
ما أجمل عاداتنا وتقاليدنا القديمة وما أحوجنا إلى أن نتحلّى بها في يومنا هذا، ونسأل الله (جل جلاله) أن لا يرينا في أيامنا القابلة أسوأ مما شهدنا.