إنَّ سؤال الهوية، بطبيعة الحال، يتفرعُ الى أسئلة متعددة، منها: مَن أنا؟، وأنتمي الى أي تجمع اجتماعي؟، ما هي طبيعة هذا الاجتماع؟ وأين هي نقاط اختلافه أو تميزه عن التجمعات الأُخرى الاجتماعيَّة؟.. وأسئلة أُخرى من هذا القبيل..
ولا مراء أن للهوية إشكاليتها وطابعها اللاتعييني، أو وجوهيتها المختلفة، أو تغيراتها الزمكانيَّة، ولهذا السبب بالذات، لا جدوى من السعي الى تحديدها بشكل نهائي، أو اختزالها في ماهية معينة، أو حصرها في نموذج ما.
فالهوية، بجملة، هي مفهومٌ نسبيٌّ وتاريخيٌّ وعلائقيٌّ في آنٍ واحدٍ. إنها نسبيَّة المفهوم، لأنها غير مطلقة تخضع لتعديلات مفهوميَّة تفرضها المستجدات السياسيَّة، أو الاجتماعية، أو الثقافيَّة، أو ربما الجغرافيَّة.
كما أنها تاريخيَّة الجوهر، نظراً لعدم تعاليها على الأزمِنة والأمكِنة المختلفة، التي تُفرز شروطها، أو إشكالياتها، أو إكراهاتها، إضافةً الى أنها علائقيَّة المنشأ وذات طابع تركيبي، نظراً لتحقّق ماهيتها من خلال مفاهيم أُخرى
متعلقة.
وعلى صعيد آخر، يمكن القول إنَّ الهوية، هي عبارة عن سياسة، أو لعبة تتشبث دائماً بكل ما يُظهرها في صورة حسنة، أو ما يمنحها السلطة والهيمنة، أو ما يصطفيها ويقدسها. إنها لعبة، لأنها يسعى فيها، حاملوها، الى الفوز بما هو أفضل، وإنها سياسة، لأنَّ الناس يشتغلون عليها لتدعيم مصالحهم وتعزيز مواقفهم. كما أنها ذاكرة، تستعيد بها ومنها الأفراد والجماعات الماضي، بقدر ما يكون هذا الأخير دعماً للحاضر المقبول، أو تجميلاً له ولتجلياته
وتمظهراته.
بعبارة أخرى، إنَّ الهوية، هي ما تنطوي على كل هذه التعاريف والمفاهيم المختلفة والمتعددة، بحيث يمكن للمرء، على ضوء هذه المفاهيم والتعاريف، مقاربة هويته ومواكبة حقيقته وحقيقة الآخرين أيضاً. ولذا يُمكن القول: إننا، ككُرد، إن كُنا في العراق، أو أي جغرافيا أخرى، ننتمي الى كل تلك العوالم السياسيَّة والاجتماعية والثقافيَّة
، التي تُحَدَّدُ بها هوياتنا الفرديَّة
والجماعيَّة.
وإننا أعضاء في كل ما نتجمع فيه أو نجتمع عليه ونتفق من خلاله على جعله إطاراً لاجتماعنا، أو مرتكزاً لوحدتنا، أو منطلقاً لقيمنا وأفكارنا، أي لماهيتنا وهويتنا، أياً كانت هذه الماهية أو
الهوية.
وبما أننا ككُرد، الذي هو - على الأقل في هذا التاريخ الذي نعيش فيه - إحدى هوياتنا المركزيَّة وأكثرها معياراً لتحديد هويتنا الاجتماعيَّة - السياسيَّة والثقافيَّة في منظور الآخرين، لا ننجو بدورنا من هذه المعادلة المعقدة للهوية، إذ يمكننا القول وبكل بساطة: إننا، قانونياً وجيوسياسياً، مواطنون عراقيون أصلاء في هذا البلد، الذي تجمعنا وإياه، على أقل تقدير، ذاكرة جماعيَّة تمتد لقرنٍ أو أكثر ونعيش فيه بل نتعايش مع جميع قومياته وطوائفه ومذاهبه
المختلفة.
كما أننا، دينياً، مسلمون أيضاً بجانب هوياتنا الأُخرى ولسنا أقل إسلاماً مِمَن يدعون إسلاميتهم في العالم الذي يُطلق عليه العالم العربي والإسلامي، لا سيما أننا نعلم أنَّ هذا الوجه من وجوه هويتنا المركبة، كما يعلم أيضاً كل من درس تاريخ الكُرد القديم والحديث والمعاصر، هو اليوم، ومنذ أنْ تأسلمنا واعتنقنا الإسلام، موضعٌ لتباهٍ وتديُّن وعبادة الملايين من الكُرد، الذين يؤدون واجباتهم الدينيَّة ويمارسون الطقوس الإسلاميَّة ويرددون نفس الأحاديث والسوَر والآيات القرآنيَّة
، التي انفلت وقُتِلَت باسمها، للأسف، مئات الآلاف منهم في مقابر جماعيَّة ومراسيم تراجيديَّة لا تقل فظاعةً مما حدثت في كوارث ومجازر أخرى إنسانيَّة
معروفة.
بعبارة أُخرى، إننا، على الصعيد الديني، مسلمون حقيقيون، وليس ثمة أية إشكاليَّة ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة يمكن من خلالها التشكيك أو التقليل من شأن تَدَيُّننا، أو انتمائنا الديني لدين الإسلام.
نحن في هذا الخصوص، غير قابلين للجدال والسجال وإنما نستحق أنْ نُنصَفَ من خلال الاعتراف بحقيقة كبيرة لنا، هي: اننا الكُرد، قياساً ببعض القوميات الأُخرى العربيَّة وإلإسلاميَّة، أكثر القوميات تمسكاً بهذا الوجه من وجوه هويتنا الدينيَّة، وأكثر المجتمعات احتراماً لكل ما يمت بالدين الإسلامي بصلة.
ومن هذه الناحية نلاحظ أنه لا توجد قرية كُردية تخلو من مسجد للعبادة والصلاة الجماعية، ولا تلاحظ مدينة كُردية تَغيب فيها أصوات الدعوة الى الخير والنهي عن الشر والمنكر من خلال المساجد الكبيرة والضخمة التي شيدّت فيها. باختصار شديد، نحن، أغلبنا، من الإسلام ولا يحق لأحد، لو أراد ذلك، انتزاعنا من هذه الهوية، التي هي، شئنا أم أبينا، وجهٌ آخر من وجوه هويتنا الدينيَّة وبعدٌ آخر من أبعاد حياتنا الروحيَّة والحضاريَّة.
انطلاقاً من هذه المُسلَّمة، لا يمكننا، دينياً أو على مستوى هويتنا الإسلاميَّة، اعتبار أنفسنا، بأي شكل من الأشكال، بمثابة الآخر المختلف بالنسبة للآخر الذي يسمى الإسلام، أو لجميع الفرق والجماعات الدينيَّة والسياسيَّة، أو القوميَّة والمذهبيَّة
، التي تعتنق الدين هذا وتُملي على نفسها مهمة الدفاع عن هذا الإسلام ضد ما يسمى بالكافرين والمرتدين أو الذين يشكلون التهديد على الدين الإسلامي. فنحن، من حيث رأسمالنا الديني، على سبيل المثال لا الحصر، امتدادٌ لأبناء ذلك القائد الإسلامي الذي تتباهى به جميع الأمم الإسلاميَّة على قياداته التاريخيَّة والمنتصرة لجيوش الإسلام وانتصاره على الصليبيين: صلاح الدين الأيوبي (1138-1193م).
كما أننا أبناُء جميع أولئك القادة والزعماء، الذين حاربوا الاستعمار البريطاني وسياساته ومخططاته بهواجس ومبادئ دينيَّة أكثر منها قوميَّة، وهذا يعني هنا أننا بمثابة الذات للآخر، أما الآخر فهو، على الصعيد الديني، ليس شيئاً آخر سوى ذاتنا. كما ونحن عراقيون أيضاً، وشاركنا في بناء هذا البلد ومؤسساته ومكانته، بل ثقافته وحضارته ونسيجه المجتمعي الفسيفسائي، بموازاة محاربتنا أيضاً لأنظمته السياسيَّة المُستبدة، التي لم تُميز في اضطهادها وظلمها بحق الجميع وفي تدمير البلاد والعباد، بين العرب والكُرد، أو السنة والشيعة، وجميع الأطياف
الأخرى.
* كاتب وأكاديمي من كُردستان العراق