لقد شبه لبعض التيارات الاسلامية المتطرفة أن بامكانها النجاح بفرض هيمنتها على الساحة الفكرية العربية إذا ما تمكنت من "شيطنة" القوى الوطنية والقومية والطعن في جذورها ومراميها . ومن اجل ذلك ، وعلى مدى عشرات السنين، اغرقت سوق الثقافة العربية بالالاف المؤلفة من الكتب التشهيرية بالفكرتين الوطنية والقومية اللتين قامت على اساسهما اعرق الدول الديمقراطية الغربية. وقد ساهم ذلك في التمهيد لسيادة منطق الارهاب الفكري الذي مارسته بدموية منظمات تدعي الاسلام الاصولي.
وقد تجسدت نشاطات قوى الاسلام السياسي المتطرف بعمليات التشهير والتشويه والقتل البطيء لفكرة الوطنية وفكرة القومية العربية، وجرى استبعاد صفة الوطنية عن كل ما لا يتوافق دينيا وطائفيا وثقافياً مع افكار وعقائد هؤلاء المتأسلمين. وسادت فكرة أولوية الدعوة للوحدة الاسلامية والانتماء الى امة اسلامية على غيرها من الدعوات. ويا حبذا لو كان ذلك ممكنا ، ولكن الهدف الحقيقي من هذه الدعوات كان زرع القطيعة بين التنوعات الاجتماعية والدينية والطائفية والقومية والوضعية العلمانية داخل الوطن الواحد، وكذلك القطيعة بين المجتمعات العربية بدولها وحدودها الوطنية.
ولنا ان نستحضر هنا موقف القادة الفكريين للاسلاميين السياسيين من الفكرتين الوطنية والقومية العربية.. وفي هذا الصدد نلاحظ حدة كره ابو الاعلى المودودي للوطنية والقومية الى درجة قوله : « لو ثمة عدو لدعوة الإسلام بعد الكفر والشرك، فهو شيطان القومية والوطنية».. ومن ناحيته يؤكد مؤسس الاخوان المسلمين حسن البنا "ان حدود الوطنية بالعقيدة، وكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطن له حرمته وقداسته» ويرى أن الاسلام: ”عقيدة وعبادة، وطن وجنسية، ثقافة وقانون، دين ودولة، روحانية وعمل، ومصحف وسيف". اما سيد قطب فيرى ان جنسية الأمة المسلمة هي العقيدة، والوطن فيها دار الإسلام، والحاكم فيها الله، والدستور فيها هو القرآن» .
مارست هذه المفاهيم الاقصائية من خلال الضغوطات اليومية التي تمارسها أعداداً كبيرة من الجمعيات الاجتماعية والدينية، مدعومة بعشرات وسائل الاعلام الموجهة، وعبر شبكات المال النفطي في تشويه الوعي الوطني والقومي العربي، وابعاد التنوعات الثقافية والمجتمعية العربية عن التكامل في اطار الوحدة الوطنية، فتعددت الهويات الفرعية وضعفت الى حد بعيد ، بفعل ذلك، الهوية الوطنية. وفي خضم ذلك التنافس التنافري وحدة التناقض، ساد منطق الاحتدام الديني والطائفي والقومي والاجتماعي، وتحولت الهويات الفرعية الى التقاتل الاهلي.
وبدل تعزيز التماسك الاجتماعي لمواجهة التحديات الوطنية والدولية، وبخاصة تحديات العولمة والهيمنة ورفع معدلات التنمية الوطنية وتعزيز رغبة التكامل الوطني والقومي العربي، هاج المتأسلمون السياسيين وماجوا، وكشفوا عن عدوانيتهم على جميع فئات الشعب من اديان وطوائف وحركات وطنية وقومية وعلمانية وحداثية واجتماعية، فتمزقت المجتمعات وانشغلت بصراعاتها عن كل ما يجمعها لتحقيق هويتها الوطنية وتنميتها الاجتماعية.
لقد جرى تشويه كل ما يتعلق بالوطنية والقومية الى درجة ان مفهوم التربية الوطنية من حيث كونه برنامجا تربويا مدرسيا اعتبرها أحد مكاتب الاشراف التربوي لاحدى الدول الخليجية لا يعدو ان يكون "مهمة هدفها زرع روح الولاء والطاعة والمحبة لولاة الأمر" !! اما القومية فهي رجس من عمل الشيطان !!..
وهكذا انشغل تيار الاسلام السياسي المتطرف بعد ان تمكن، بكل الوسائل، من اضعاف الرابطة الوطنية والرابطة القومية باثارة الفتن أينما وجد. ففي الدول التي عرفت التعايش ما بين التنوعات الدينية والقومية والطائفية مثل العراق وسوريا واليمن اشعل المتطرفون من دعاة الاسلام السياسي المتطرف الفتن الطائفية والدينية والقومية بينها.
وفي الدول ذات الانسجام المجتمعي العالي مثل مصر هاج السلفيون المتطرفون وماجوا ضد فئات المجتمع كافة فهم : ضد المسيحيين وضد الصوفيين وضد الحداثيين والعلمانيين والشيوعيين وضد الجمعيات النسائية ، وحاربوا بضراوة المتشيعين وكل الحركات الوطنية والقومية والاتجاهات الادبية التحديثية. لقد ألتقى مسعاهم هذا مع مسعى القوى الغربية الكبرى واسرائيل التي خططت منذ اكثر من قرن لإشعال صراعات العصبيات واحتدام المدارس الفكرية والسياسية ولاقتتال الهويات في عالمنا العربي .
وكما نرى فقد ترك تيار الاسلام السياسي التطرفي الاهداف التسامحية الاسلامية والانفتاح على الاخر، كما ترك الاهداف التنويرية للعملية التربوية الوطنية التي انشغل بها الشيخ محمد عبده بعد أن عمل على تطوير برامج التربية والتعليم من اجل الارتقاء بالمجتمع والعمل على بناء الذات الحضارية.
ترك المتطرفون هذه المهمة، لكي يجعلوا همهم الاساس محاربة السفور وتوافه الامور، وفرض الحجاب والنقاب على النساء ومحاربة حقوقهن وأزياء متخلفة للرجال . حاربوا الفن والفنانين وتصادموا مع المثقفين، واعتبروا ان ابرز اهداف العملية التربوية هي القبول بالعبودية واطاعة اولياء الامر وابقاء الناس رعايا بدل من تحويلهم الى مواطنين.
باختصار ، لقد أدى التشكيك بجدارة الانتماء الوطني الى تفكيك المجتمع الى هويات متحاربة وغيب الى درجة مقلقة الهوية الوطنية لمصلحة العصبيات الطائفية والدينية والقومية والمناطقية، وقد أدى الانعزال عن المحيط العربي والتنكيل بالهوية القومية الى العزلة المقيتة التي دفعنا ثمنها غالياً . لقد تأكد للجميع ان الافكار التطرفية لم ولن تتمكن من النيل بجدارة وصدقية التاريخ والجغرافية . فبلد مثل العراق عاش ويعيش وسيعيش بفضل أنه وطن لكل التنوعات الثقافية والدينية والقومية .ولكونه يقع ما بين الامم الثلاث التي خلقت تاريخ الاسلام وحضارته وهي: العربية والفارسية والتركية سيبقى جسر العرب المتقدم للتعامل السمح مع جغرافيته الحضارية.