عقيل مهدي: في المسرح حتى الهامش يمتلكُ وجوداً جوهريَّاً

الصفحة الاخيرة 2022/02/15
...

  حاوره في بغداد: حسن جوان
أحد أساتذة الجمال في المسرح العراقي، ممن يُلبسون الفكرة الفلسفية العميقة ثياباً شفيفة من الغواية الداعية الى مراجعة الذات والقضايا الكبرى، رغم تناوله كتابياً أو مسرحياً ثيمات ومواقف تقف الدمعة فيها على شفا الأهداب، أو النبض على هاوية الهلاك، لكن مراهناته الجمالية تبقى مهيمنة على فضاء العرض. كتب العديد من المصادر التي تعد مراجع في أبوابها، وعمل مؤلفاً وممثلا ومخرجا وأكاديمياً عبر مسيرة من العطاء امتدت لعقود. الدكتور عقيل مهدي الذي إلتقيناه قبل أيام فكان هذا الحوار الخاص بـ "الصباح":
 
* لديك انتباهة الى وجود ثنائيات اِنْبَنَتْ عليها بعض أعمالك، منها ما هي ثنائيات تقليدية مثل الخير والشر، ومنها ما هو مبتكر مثل عنوانك "علي الوردي وغريمه"، ما أثر هذه الثنائيات في كتاباتك وانعكاسها على معالجتك المسرحية؟
 
- عندما قدمت السيَّاب برزت تساؤلات حوارية مثل هذا التساؤل الذي تطرحه عن الثنائيات. وأريد القول هنا بأن المدارس النقدية الحديثة تعد حتى الهامش يمتلك وجوداً جوهرياً، وكثير من توظيفات الهامش تتحول الى مواضيع مهمة داخل أعمالي المسرحية – صوت البواب في مسرحية ماكبث مثالاً- وفكرة الثنائيات والتضادات موجودة في الحياة منذ بدء الخليقة وهي موجود في المسرح حتى في أبسط عناصره، فعندما يكون هناك بطل يكون هناك ضده تلقائيا، وكذلك الفكرة ونقيضها، وهذا الصراع ضروري في الدراما -في النص والعرض- وهو ما تكون بؤرة التركيز عليه، الأمر الذي تطرقت إليه الفلسفة وعبرت عنه بالجدل لدى هيجل وغيره.
 
* في مسرح السيرة، تناولت بمنظور فريد طفولة كلكامش وعالجت جواد سليم والسيَّاب وحقي الشبلي وغير ذلك من السير والثيمات الصادمة في عناوينها وطريقة تناولها، إذ أزحت السيرة عن أنساقها المألوفة واجترحت لها أزمنة أخرى وظروفاً باتجاه معادلات وقراءات جديدة. 
 
- في السيرة الافتراضية لم أقدم على الأخذ بالسيرة الذاتية لأحد هؤلاء الذين ذكرتهم، فالصبي كلكامش عنوان غامض للجميع لأننا نعرف كلكامش الأسطورة فحسب، وهنا تحديداً أردت أن اخاطب المتلقي الصغير والفتيان لتلقينهم فكرة البطل وكيف أصبح أسطورة عظيمة وخالدة.
وفي "علي الوردي وغريمه" تقترن الفكرة بطبيعة المجتمع العربي بشكل عام والعراقي بشكل أخصّ.
كان الوردي ينتقد وسطه الأخص هذا من دون استثناء مذهبي او جغرافي او سياسي، وإنما اعتبره عينه شاملة، وعليه فالسيرة الافتراضية هنا المنطلقة بوسيلة مسرحية- والمسرح هو افتراض بحد ذاته- وبحسب جواد سليم فإنه يقول بأن بعض الرسامين يرسمون تفاحة ويكتبون تحتها "تفاحة" كعنوان للعمل، وهذا جزء من السذاجة، لأن الفن هو تأويل، ومهما غالت المدرسة الطبيعية في أدائها فإن الجلوس أمام الخشبة هو مسألة ليست واقعية وانما هي لتأدية عمل فني تأويلي وليس تمثيلاً للواقع مباشرة. فكرة علي الوردي في المسرحية قامت على افتراض الراحل الوردي حيّاً في زمن الاحتلال الأميركي للعراق ومعتقلاً من قبل إرهابيين في أحد المراكز حيث يطلب منه الكتابة عن الواقع العراقي تحت الاحتلال. وبهذا اقترحت ووظفت فكرة علي الوردي ضمن الحوار ومفارقات الحدث ومناقشاته في زمن كان الوردي قد رحل عن عالمنا منذ زمن بعيد. إنه توظيف حواري سلمي لفكرة، استخدم الآخرون وسائل عنفية للتصدي لها.
 
* وهل هذه الحوارية تشمل أيضاً فكرة "الحسين كما نراه"؟
- بالضبط، فمسرحية "الحسين كما نراه" عمدت الى جعلها إحدى المسرحيات الثلاثية، وهذه الثلاثية تمتلك فرادة خاصة لا تشبه في نسقها أيّاً من الثلاثيات الأخرى منذ المسرح الاغريقي والى يومنا، ففي الجزء الأول منها تناولت فكرة الحسين الآن، وتعتمد على احتمالية مجيء الحسين في وقتنا الحاضر وما الذي كان سيفعله أمام واقعنا وقد قمت بالاشتغال على افتراضات كثيرة وشخوص ومعالجات لجهة إيصال الفكرة ومناقشتها أخلاقيا وفكريا، وتلتها مسرحية "الحسين في غربته" ومسرحية "الحسين كما نراه" رغم أنني اعتمدت منطقياً على أحداث وشخصيات تاريخية فعلية. المسرح رسالة تنويرية وإعادة مناقشة ذواتنا وذوات أخرى من أجل الجمال ورفض الظلم أيضاً.
 
* ما دام المسرح كذلك ما رأيك بمقولة "دافعوا عن عقولكم كما تدافعون عن أسوار مدينتكم" ألا يشكل المسرح أحد خطوط دفاع العقل المتنور في مواجهة الخرافة والظلم؟
- منذ الاغريق وابتداعهم المسرح في وقت مبكر لديهم انهمكت نصوص المسرح سواء في توظيفها الأسطورة او الملحمة وحتى الكوميديا بقضايا ترتبط بمصير الإنسان، كما تحضرني الآن مقولة لأحد الكتاب العالميين، إذ يقول "عندما أكتب القصيدة أشعر أنني سأموت إن لم أقلها".. وهذا ينطبق على طبقات العمل المسرحي وتفاعل الفكري فيه مع الإنساني والتقني وغيرها. المسرح.. عطفاً على سؤالك، عاصر مراحل تاريخية وحضارية متنوعة وحافظ على صوته الإنساني ومنظومة القيم في كل العصور التي قطعها سواء كانت قيماً أخلاقية خالدة او فنية وكان مدافعاً وناقداً وملاذاً للناس في شتى أمور حياتهم والأمثلة على ذلك كثيرة جداً سواء في النصوص المسرحية العظيمة أو في الأعمال الإخراجية الكبيرة. 
 
* تؤدي السينوغرافيا وظيفة كبيرة في العرض المسرحي، وقد شهدنا عروضاً عالمية تطورت فيها السينوغرافيا لحدود تقارب المشاهد الكبرى للسينما من أدوات ومؤثرات وغيرها، في حين بقيت السينوغرافيا في المسرح العراقي فقيرة وثانوية وتعتمد على ذات الوحدات التقليدية، الى ماذا تعزو هذا التراجع؟
* لقد حضرت شخصياً عملاً عالمياً اسمه "الضيف على غير انتظار" للمؤلف الروسي اربازوف، قاموا فيه إجرائياً بالاستعانة بعلماء فضاء لإنشاء خلفية مناسبة للمسرحية.
وهنا يمكننا المقارنة للأسف بين إمكانات السينوغرافيا لدينا ولدى الشعوب الأخرى. في عملي "الإسكافي" عانيت فعلاً حينما أردت أن يتضمن المشهد ناطحات سحاب مثلا، فلا تقنية المسرح تسمح ولا ذهنية التقنيين لدينا. إحدى العلامات لدينا أن المسرح مرتبط بالقراءة لا بالمشاهدة، وما أشرت اليه من إمكانات تقنيات سينمائية إنما هي إمكانات متكيفة للمسرح من لون وضوء وعمق وغيرها من عناصر فنية، فضلا عن 
تكييف لغة العرض بحسب اللغة المسرحية لعمل ما.. سواء كان واقعياً أو رمزياً أو تجريبياً، فهذه الأدوات قابلة للتكيف المتسع...المفتوح.. على عكس أدواتنا المحدودة… المغلقة.
 
* هناك ما يُدعى مسرح ملتزم يُعنى بحراك الحياة وارهاصاتها، ما هو موقف المسرح العراقي من واقع الحياة العراقية الآن، وما ينعكس عليها من سياسات وتهديدات للسلام بشكل مستمر؟
- كل المسرحيين المثقفين عندما وصلوا الى منهجة المسرح بطريقة علمية، وهذه العلمية تختلف عن علمية من يجلس في مختبره لإيجاد الحلول، وانما علمية من يبحث ويتحرى المشكلات للوصول الى الحلول الإبداعية.. عندما يكون الكلام عن الوطن والهوية والديمقراطية وغيرها فمن المؤكد أن نقدم مادة تنسجم مع هذا الإطار واتباع أنساق لها مرجعياتها المناسبة في العرض. 
 
* كيف كانت بواكير التجربة المسرحية العراقية وصولاً الى تشكل هويته الخاصة؟
 
- المسرح العراقي منذ بداياته البسيطة والمتأثرة ببعض العروض الإنكليزية وقتذاك عندما قدمت بعض الفرق عروضاً للجيش البريطاني في بغداد، وكذلك بعض الفرق التركية والمصرية، فضلا عن رعاية الكنيسة الدومينيكانية في الموصل لبعض الأنشطة.. كلها انتجت محاولات مسرحيات عراقية لاحقة اعتمدت ثيمات تاريخية بقيم لا تخلو من شحنات وطنية ورسائل تهذيبية او أخلاقية كلها تندرج في محاولة الحفاظ على الذاكرة الوطنية وأمجاد الماضي التليد والتمسك بها. 
وقد امتدّ لاحقا هذا الشعور الوطني لدى أسماء مثل إبراهيم جلال وسامي عبد الحميد وجاسم العبودي وجعفر السعدي الذين كانوا يُبشِّرون بقضايا وطنية وقد تعلّمنا منهم الكثير. تلك المرحلة أعقبتها محاولات وانعطافات كثيرة حتى تشكلت العتبة الحاسمة مع حقي الشبلي في أعقاب رحلته الى فرنسا وعودته لتأسيس قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وكان بالتوازي مع تأسيس جواد سليم قسم الرسم، رائدا في تكريس المسرح على وفق منهجية علمية حريصة على اقتفاء المسار التطوري لفنون المسرح عبر 
العصور. 
 
* ما الذي تبقى للمسرح من لغة مؤثرة وسط تعدد قنوات الاتصال وتباين وسائط التأثير التي اجتاحت الكثير من مناطق الإبداع؟
- المسرح بقي محتفظا بآنيته التي تعني الحضور الحقيقي والتفاعلي للشخص والرمز أمام تلقي الجمهور المباشر والآني. وهو يتجاوز حتى السينما باعتبار صورتها منقولة عن أصل جرى تصويره في الاستوديو أو في الفضاء العام.. في المسرح تستند العروض وجمالياتها على كيفية رسم الشخصيات والحركة والتكوين والإنشاء العفوي الآني غير القابل للتكرار حرفياً بطريقة النسخ، رغم تعدد العروض لان الايقاعات سوف تختلف من داخل العرض المسرحي نفسه، او حتى إيقاع الجمهور بدوره أيضاً سوف يختلف. هذه الآنية تمنح ضخاً علاماتياً جديداً، لذا يبقى المسرح متجدداً وقابلاً للتواصل والتفاعل الحي.