مدينة العمارة في ستينيات القرن الماضي دور سينما ومسارح ومكتبات

الرياضة 2022/03/08
...

 العمارة هي مركز محافظة ميسان، أتباهى لأني ولدت في أقدم محلاتها وهي منطقة الجديدة، وكان اسمها في بداية التأسيس محلة القادرية نسبة للوالي العثماني عبد القادر الكولمندي الذي باشر البناء عام 1861 ميلادية. ما يميز تلك المحلة أنها تقع في وسط مدينة العمارة، لذا تجدها محطة استقطاب للأسر الميسورة الحال، فضلا عن الطبقة الثقافية والفنية التي تمثل العمود الفقري للمحلة. 
يوسف المحمداوي
وما يميزها أيضا أن اغلب المؤسسات الحكومية والترفيهية كانت ضمن حدود منطقة الجديدة، ومن الأسماء الثقافية والفنية والدينية التي سكنت تلك المحلة، الفنان والناقد التشكيلي شوكت الربيعي، الفنان الراحل ياسين المحمداوي، الكاتب عبد الخالق كيطان، القاص جمعة اللامي، الصحفي مؤيد اللامي، الشاعر كريم العبودي، الشاعر رياض جمعة، قارئ القرآن عبدالزهرة العماري، الفنان حسن حسني، الفنان الراحل فاضل خليل، الفنان ماجد درندش، المصورة الاولى في العراق سميرة مزعل الشمسي، وغيرها من الاسماء التي تمثل علامة بارزة في مجال 
إبداعها.
 
مدرسة   الكوثر  المختلطة
ما يسعدني ويزيدني فخرا اني ولدت في تلك المحلة، ودخلت المدرسة الابتدائية فيها، وبالتحديد في مدرسة الكوثر المختلطة وذلك في منتصف ستينيات القرن الماضي، وما يميز تلك المدرسة الفاتنة بموقعها وبنايتها أنها تقع قبالة نهر دجلة وعلى كورنيشها، وهي عبارة عن قصر من طابقين وسط حديقة ثرية بالورود وأسيجة الياس، فما أن تدخلها تتسلل الى الروح عطور الياس والورود لتنعش ذاكرة التلاميذ وتستعمر اللهفة للدرس جميع 
تلاميذها.
أتذكر في درس الدين كانت معلمتنا من اهالي سامراء الذين سكنوا مدينة العمارة وما اكثر السوامرة فيها، الى درجة ان اكبر جوامع ميسان هو جامع السامرائي الذي يقع في شارع بغداد الى يومنا هذا.
عندما تدخل تلك المعلمة الى الصف تبدأ الدرس بقولها "من يريد أن يخرج من الدرس ومن يحب أن يبقى؟"، فيخرج من الصف التلاميذ من أخوتنا الصابئة 
والمسيحيين، لأن الصف في ذلك الزمن الجميل هو خليط من المسلمين والصابئة والمسيحيين، وكذلك من العرب والكرد الفيليين، وكان يطبق القول " لا إكراه في الدين" كمنهج معتمد في درس الدين كما 
يحدث الآن!
 
فطورٌ صباحي   وكسوة  فصليَّة
كما ذكرت أن الزمن كان في منتصف ستينيات القرن الماضي وهذا يعني لا وجود للثروة النفطية بسبب احتكار الشركات الأجنبية للنفط، ومع ذلك تجد المعينة "والتي نسميها اليوم الفراشة" تدخل علينا صباح كل يوم بالفطور الصباحي الذي يتنوع بحسب أيام الاسبوع، ما بين حليب الكارنيشن، والأجبان، والبيض المسلوق، والبسكت والصمون والفواكه، نعم في كل يوم، وكذلك هناك كسوة شتائية وأخرى صيفية لكل تلميذ، رغم لا وجود لقانون حكومي صريح بمجانية التعليم، ومن المستحيل أن أنسى مشهد الأحصنة التي تقود العربة "الربل، وهي تقف قبالة باب دارنا بانتظار نقل شقيقاتي الى المدرسة، ومن ثم العودة بهن كخط لنقل الطالبات، أتذكر ذلك الترف الكوثري وأنا أنظر بمرارة لما يعيشه تلاميذنا اليوم من واقع مأساوي في ظل عملية تربوية أقل ما يقال عنها 
بالفاشلة.
 
السينما   والمسرح
ما ذكرته لا يمثل جميع مناحي الترف الذي كانت تعيشه محلة الجديدة، خصوصا مدينة العمارة عموما في ذلك الزمن، فكانت هناك على سبيل المثال خمس دور سينما، مسارح، بل ذكر لي المخرج المسرحي الراحل جميل التميمي أنه في أربعينيات القرن الماضي عرضت مسرحية لفرقة انكليزية وباللغة الانكليزية، وكان الحضور ملأ كورنيش العمارة في ذلك الزمن، وهناك محال تتحول اسبوعيا لمنتديات ثقافية، وعلى سبيل المثال لا الحصر محل حلاقة خليل وهو والد الفنان الكبير الراحل فاضل خليل يتحول اسبوعيا الى مجلس أدبي، يحرص على حضوره الكبار من أدباء وفناني المحافظة، 
وهناك العديد من المكتبات منتشرة داخل السوق الكبير وفي شارع المعارف، واشهرها المكتبة العصرية الذي أسسها صاحب المكتبة العصرية في بغداد المرحوم الرمضاني والد الشاعر الراحل عبد الرحمان الرمضاني، والى الآن هي موجودة ومالكها الكتبي حيدر اللامي وفتح لها فرع آخر يديره ولده الكتبي سعد حيدر اللامي،  ومن رواد تلك المكتبة الجواهري أثناء نفيه الى مدينة العمارة، د مالك المطلبي واخوته، عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله، لميعة عباس عمارة، الأديب مديح الصادق، المصورة سميرة مزعل، عبد الرزاق عبد الواحد، جمعة اللامي، نجم والي، سليم السامرائي، شاكر السامرائي، عبد الزهرة المنشداوي، ادهيم حطاب، شوكت الربيعي، فاضل خليل، محمد الحمراني، سعدون البيضاني، 
صادق ناصر الصكر، علي سعيد، حسن السلمان، جمال جاسم عزيز، عبد الخالق كيطان، كاظم غيلان، نصير الشيخ، نصير جاسم الخفي، ماجد البلداوي  وغيرها من الاسماء البارزة في مختلف روافد 
الابداع. 
مجمع  الأديان
في المنطقة الفاصلة ما بين محلتي الجديدة والسراي تقع محلة التوراة والتي كان يسكنها اليهود ويوجد فيها المعبد وكذلك المدرسة اليهودية وآثارهما الى الآن موجودة، وما يدهش الناظر أنه بقرب المعبد اليهودي هناك كنيستان هما أم الاحزان ومار يوسف، وتحرص والى يومنا هذا الأسر المسلمة على زيارة تلك الكنائس، بل إن البعض من المسلمين يؤدي فريضة الصلاة وسط تلك الأماكن المقدسة، 
وقد حرص المتوكل على كنيسة أم الاحزان السيد جلال دانيال على توفير سجادات الصلاة والترب والمسبحات وحتى كراريس الأدعية لجذب المسلمين وتشجيعهم على الصلاة في كنيسته، ليس بالغريب او خارجا عن المألوف اذا ما وجدت العديد من النساء المسلمات يقومن بختم باب الكنيسة بالحناء من أجل التبرك، وبعضهن يقومن بكنس باحة الكنيسة من أجل نيل الثواب، وبالتجاور مع كنيسة أم الاحزان تجد كنيسة مار يوسف التي فيها قبور الشخصية المعروفة حنا الشيخ 
وأسرته، لتصبح منطقة التوراة مجمعا للأديان وأن غياب المعابد المندائية والتي تسمى بالمندي عن تلك المحلة هو لبناء الاخوة الصابئة معابدهم على ضفاف الأنهار، لأن أغلب طقوس عبادتهم مرتبطة ارتباطا مقدسا بالماء، ولا تستغرب أن ترى في أيام عاشوراء بأن أخوتنا المسيح يقومون بإحياء شعائر محرم كما المسلمون، بل يتسابقون مع أخوتنا المندائيين على طبخ الاطعمة وتوزيعها بين بيوت المسلمين او في مواكب العزاء، وما يلفت النظر أن اغلب الأسر المسيحية والمندائية منتمون الى عشائر الجنوب، فمثلا قرأت وبأم عيني هوية الأحوال المدنية للصديق نائل جلال دانيال البهادلي، والبعض سواء كان صابئيا او مسيحيا تجده منتميا الى عشائر السواعد والبومحمد وبقية العشائر ليشاركوهم أحزانهم وأفراحهم، لذلك تجد مدينة العمارة لم يهاجر منها أغلب المسيح او الصابئة، 
لكونهم محتمين بتلك العشائر، والى يومنا هذا تجد في مرقد النبي العزير موكبا يافطته خطت بباب المرقد 
تقول "موكب عزاء النبي العزير عليه السلام"، وأنا أشاهد تلك اليافطة والمصلين المسلمين الذين يطوفون مرقد ذلك النبي اليهودي، كم تمنيت من بعض السياسيين الطائفيين أن يزوروا مدينتي ويتعلموا منها طريق السعادة والانسانية والتعايش السلمي المبني على روح المواطنة، التي أمرنا بها الله عزّ وجلّ  وأحاديث الأنبياء 
والأوصياء.
حمامات  النساء
من المظاهر الأخرى التي ما زالت تسعد ذاكرتي، أن حفلات الأعراس لا تقام في البيوت، وإنما في كازينوهات وقاعات خصصت لهذا الغرض تقام على كورنيش شارع دجلة، وكان يحييها عمالقة الفن في تلك المحافظة مثل سيد محمد وجويسم الأعمى وسلمان المنكوب وعبادي العماري وحسين سعيدة، وقد سبقهم في ذلك مسعود العمارتلي، اما مجالس العزاء فتقام في الجوامع والحسينيات، وهناك في كل محلة اكثر من حمام للنساء وهذه الحمامات تحرص الأمهات على جلب بناتهن المستحقات الزواج لعرضهن بصورة غير مباشرة على النسوة الأخريات، لعلَّ القسمة واليانصيب تحقق هدفها، وبالفعل تحققت العديد من الزيجات من خلال حمامات النساء، لان والدة العريس تتعرف مسبقا على مفاتن العروس في الحمام وسعيدة الحظ من تحظى بقبول ام العريس، وان دور السينما تجدها ممتلئة بالأسر التي في الغالب تحجز الأماكن الأمامية، التي تسمى "اللوج" وأتذكر جيدا.
رغم كنا حينها في الابتدائية أنا وشقيقي الفنان الراحل ياسين المحمداوي نحرص في نهاية كل اسبوع على انتطار والدي يأتي من محله في السوق "المسكف" ليعطينا ثمن تذكرة الدخول لسينما الخيام، وكانت إن لم تخن الذاكرة (40) فلسا، وكان البواب جارنا ابو لطيف يتساهل معنا ويدخلنا الى الصالة بتذكرة واحدة، وكانت أغلب الأفلام، التي كنا نشاهدها أما هندية او تركية او أفلام الكابوي القديمة، مثل أفلام سنكام وشامي كابور وآشا باريخ أو أفلام أبو جاسم اللر أو رنكو أو ماجستي الجبار وغيرها من أفلام 
الستينيات.
 
فطور العافية
من الحالات التي لا أنساها أبدا، كيف نجلس في الصباح وترسلنا والدتي الى مطعم الباجة بعد أن تثرد لنا الخبز في أحد القدور لنجلب فطور الصباح، او إلى مطعم الكباب، او إلى ام القيمر، خاصة اذا كان عندنا ضيوف قادمون من الريف، وتذكرت هذا المشهد العام الماضي وأنا أشاهد العديد من النساء عند باب احد المطاعم ينتظرن دورهن في شراء الكباب لأسرهن.
ما ذكرته هو بعض البعض من السعادة والترف وثراء الوعي الذي عشناه بمدينتنا العمارة في ستينيات القرن الماضي، وبالتأكيد لن نرى مجددا جميع تلك المشاهد، بعد أن تأريفت المدن لتبطش الافكار الظلامية والقبيحة بكل ما هو تنويري وجميل.